الباحث والأكاديمي عبدالواسع الحميري: وسائل التواصل جنت على الناقد العربي

 

(شبكة الطيف) عدن : صالح البيضاني

احتفت الأوساط الثقافية اليمنية والعربية مؤخرا بصدور المشروع النقدي الجامع للباحث والمفكر والأكاديمي اليمني الدكتور عبدالواسع الحميري في 32 كتابا، عن دار عناوين بوكس في القاهرة، واشتملت الموسوعة النقدية على عدة محاور تنوعت ما بين تحليل الخطاب النقدي والإبداعي والشعري والسياسي، وتحليل خطاب المعرفة والوجود ونقد الخطاب الفلسفي وتحليل الخطاب السردي قديما وحديثا.

وفي هذا الحوار مع صحيفة “العرب” يتحدث الحميري عن مشروعه النقدي ورؤيته النقدية للعديد من القضايا المتعلقة بالفكر والثقافة العربية.

مشروع نقدي شامل
العرب: حدثنا عن مشروعك النقدي الجامع؟ لماذا هو مشروع نقدي جامع؟ جامع لأي شيء؟

عبدالواسع الحميري: هو جامع على مستوى منهجيته: بين التنظير والتطبيق، وجامع على مستوى مجالات اشتغاله (لنصوص الخطاب بكافة أشكاله وتجلياته)، وجامع على مستوى وظيفته لشتى وظائف النقد، وجامع على مستوى مرجعيته بين القديم والجديد (قديم ما أنجز نقديا عربيا وعالميا، وحديث ما أنجز عربيا وعالميا).

العرب: متى تولدت فكرة المشروع وكيف نمت وتطورت؟

المشروع النقدي يفتح عين القارئ العربي على مناطق أخرى غير تلك التي اعتاد أن ينشغل بها ويشتغل عليها

عبدالواسع الحميري: انبثقت نواة المشروع في مطلع التسعينات من القرن الماضي (في العام 1989 تحديدا)، حين شرعت في البحث عن موضوع للحصول على درجة الماجستير في الأدب، وكان همي الوحيد هو البحث عن موضوع للدراسة في الأدب اليمني، له صلة بواقع الحياة في اليمن، وبجملة العوامل التي أسهمت في صياغة واقع الحياة اليمنية التي كنا ما نزال نعانيها أو نجتر آثارها، فكان أن وقع اختياري على قصيدة المديح في الشعر اليمني الحديث في الفترة بين 1938 و1962؛ لجملة من الأسباب الرئيسية، من أهمها أن التاريخ الثاني (1962) يمثل عام انتصار الثورة اليمنية التي أطاحت بالسلطة المتوكلية وبرمزها الممدوح الذي ظل مهيمنا على بنية القصيدة اليمنية، ومثلت مرحلة تحول مهمة في خلق شخصية الإنسان اليمني عموما والشاعر خاصة خلقا جديدا، كان له تأثيره الكبير في تطور إبداعه الفني؛ موضوعات وأدوات تعبير.

العرب: برأيك ماذا يضيف هذا المشروع إلى الحركة النقدية العربية؟

عبدالواسع الحميري: أزعم بأنه يضيف الكثير، يكفي أنه يفتح عين القارئ العربي، بوصفه الناقد، على مناطق أخرى غير المناطق التي اعتاد أن ينشغل بها ويشتغل عليها؛ فهو يأخذ بيده إلى مناطق قصية، وهي المناطق المهمة التي أسهمت ومازالت تسهم في صياغة وعي الإنسان العربي وتوجيه إرادته وسلوكه.

أعتقد أن أهمية هذا المشروع متأتية من أنه لا يقف عند حدود نقد النص الأدبي الذي استهلك جهود النقاد قديما وحديثا دون أن يخرجوا منه بطائل؛ فهو يتجاوز حدود النص الأدبي، النص الواحد، بحثا عن المعنى الواحد، المعبر عن الموقف الواحد، إلى نصوص الكلام الحي بأشكالها كافة، فهو إذن ومن هذا الباب يضيف الكثير ويفتح أعين النقاد على مناطق ربما هي أهم من المناطق التي توقفوا عندها وانشغلوا بها.

العرب: في مشروعك النقدي الجامع هل ثمة ملمح يمني بفعل تكوينك الثقافي؟

الأصل في الخطاب النقدي أنه هو ذاته خطاب فلسفي، فالناقد ينطلق فيه من رؤية أو موقف فلسفي من الوجود

عبدالواسع الحميري: لا شك أن اليمن حاضر في مشروعي النقدي؛ هو حاضر كهم إبداعي ثقافي اجتماعي سياسي أو كباعث أو دافع أو محفّز على التفكير والكتابة في مواجهة ذلك الهم، وهو حاضر كإنجاز أيضا؛ فمعاناة الإنسان اليمني حاضرة في هذا المشروع، قضاياه، أسئلته، مشكلاته التي كانت ولا تزال سببا في معاناته، في تخلفه، في تعاسته وبؤسه.

قضايا الحروب الناجمة عن الصراعات السياسية البينية على السلطة كلها حاضرة في هذا المشروع الذي وجد أصلا في مواجهة هذه القضايا التي تؤرق الإنسان في اليمن خصوصا وفي عالمنا العربي والعالم الثالث عموما، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فضلا عن أن ما أسميته بالملمح اليمني يعد حاضرا على مستوى الإنجاز، فهو حاضر حضورا مباشرا في بعض مشاريع الأبحاث والكتب التي تشكل نسيج السلسلة.

وأذكر من ذلك كتاب “خطاب السلطة والخطاب المضاد” الذي ركزت فيه على الخطاب الشعري المدحي في اليمن بنية ودلالة، رؤية وموقفا، كذلك كتاب “أزمة الخطاب السياسي العربي المعاصر” الذي تناولت فيه أنموذج الخطاب السياسي اليمني؛ دارسا ومحللا جذور الأزمة اليمنية، باحثا عن أسبابها وكاشفا عن تجلياتها وما أفضت إليه، إضافة إلى بعض الدراسات التي عرضت لخطاب التنوير في اليمن ومن خلال أبرز رموزه، كالزبيري والموشكي والبردوني والمقالح وغيرهم.

عصر جديد
العرب: هل يمكن برأيك تبسيط النقد بحيث يتخلى عن طابعه النخبوي؟

دخول إلى شوارع اليمن من خلال النقد (لوحة للفنان مظهر نزار)
دخول إلى شوارع اليمن من خلال النقد (لوحة للفنان مظهر نزار)
عبدالواسع الحميري: شخصيا أعتقد أنه ليس من السهل تبسيط النقد وجعله يتخلى عن نخبويته؛ لجملة من الأسباب، منها أنه في الأصل خطاب موجه إلى النخبة، من النخبة إلى النخبة، بوصفها من تنتج نصوص الكلام بأشكالها كافة، ومنها أيضا أن موضوعاته وقضاياه هي قضايا النخبة، قضايا فنية إبداعية ثقافية أيديولوجية سياسية اجتماعية تخص النخبة وليست مما يخص الإنسان العادي، ولا هي من جنس الموضوعات التي تهمه؛ فهو إذن نخبوي من حيث الجهة التي يتوجه إليها بخطابه، وهو نخبوي من حيث القضايا والأفكار والأسئلة التي يطرحها ويحاول الإجابة عنها، ومن ثم هو نخبوي من حيث اللغة التي يستخدمها، ومن حيث الأدوات والآليات التي يتعامل بها أو من خلالها.

لذلك كان من الصعب أن يتخلى عن طابعه النخبوي، وأن يكتسب طابع الشعبوية. زد على ذلك أن الأصل في الخطاب النقدي الحقيقي أنه هو ذاته خطاب فلسفي أيضا؛ كون الناقد ينطلق فيه من رؤية أو موقف رؤيوي فلسفي من الوجود والعالم، يعمد من خلاله إلى تفكيك خطابات النخب الفاعلة في المجتمع الإنساني، من شعراء وسياسيين ومؤرخين وفلاسفة، ويعيد تشكيلها بما يحقق أهدافه وطموحاته المعرفية التي تستجيب لروح العصر الذي يعيش فيه ويتفاعل مع قضاياه.

العرب: ماذا بعد المشروع النقدي الجامع… ماذا بقي للدكتور عبدالواسع؟

عبدالواسع الحميري: لا شك أنه بقي الكثير مما أعتقد أنه حقا مهم، بل ربما هو الأهم في سيرورة هذا المشروع؛ بقي خطاب الأصول، أصول الثقافة، أصول الحضارة، حضارتنا الإسلامية التي هي في جوهرها حضارة روحية نصية، أسسها النص الإلهي (القرآني) ونهضت بمقتضاه.

أقول هذا لأننا إذا سلمنا بأن حضارتنا الإسلامية حضارة روحية نصية، فإن واجب الوقت يحتم علينا أن نعود إلى الأصول؛ أصول فهم هذا النص الإلهي وأصول تفهيمه، ومساءلة هذه الأصول، وهو ما بت أعمل عليه منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث وجدت نفسي منخرطا في العمل على تحليل ونقد خطاب هذه الأصول، أصول الفقه وأصول التفسير وأصول الحديث وأصول المعرفة والاعتقاد، منطلقا في ذلك من قناعة راسخة مفادها أننا صرنا اليوم بأمس الحاجة إلى مساءلة هذه الأصول وإعادة فهمها في ضوء معطيات العصر وبما ينسجم مع روح النص القرآني المؤسس لهذه الحضارة.

العرب: هل مزجت بين النقد الفكري والأدبي والفلسفة في مشروعك النقدي؟

عبدالواسع الحميري: أنا لم أمزج بين ما تسميه بالنقد الفكري والنقد الأدبي والفلسفة بقدر ما طوعت أدوات النقد الأدبي وآلياته لتحقيق أهداف معرفية ثقافية تخص حياة الإنسان بجوانبها المختلفة، منطلقا في ذلك من قناعة راسخة مفادها أن الفعل النقدي يجب أن يتحول إلى فعل فاعل في نصوص الكلام الفاعلة في حياة الإنسان بكافة أشكالها وتجلياتها، ولا ينبغي أن يبقى محصورا في إطار نص الكلام الواحد، بحثا فيه عن المعنى الواحد، المعبر عن الموقف الواحد أو الرؤية الواحدة، يجب أن يتحول إلى نوع من الإصغاء والحوار مع كل نصوص الكلام الحي، أدبية كانت أم غير أدبية، وبخاصة تلك النصوص التي تفعل في حياة الإنسان الأفاعيل.

أردت أن أتجاوز منطق الخطاب النقدي التقليدي الذي توقف عند حدود نقد النص الأدبي الواحد المعبر عن المعنى الواحد. لأنني ذهبت إلى أنماط النصوص لأسائلها ولأبحث فيها عن دلالات أخرى تتجاوز ما هو أدبي إلى ما هو سياسي اجتماعي معرفي ثقافي وجودي فلسفي. أردت أن أقول للقارئ والناقد العربي: إننا بتنا في عصر جديد وعلينا أن نتعامل معه بروح جديدة، لتحقيق غايات ومقاصد جديدة، وبإمكانات جديدة، تلبي متطلباته، وتضعنا في مصاف الأمم الناهضة والفاعلة في مسيرة الحياة التي تحياها في إطار العصر.

الناقد في العصر الرقمي
العرب: كيف تنظر إلى واقع النقد العربي اليوم في زمن وسائل التواصل الاجتماعي وهل بات النص يحتاج إلى ناقد فعلا؟

عبدالواسع الحميري: على الرغم من أهمية وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة إلى الناقد؛ كونها أتاحت له من الإمكانات ما لم يكن متاحا له من قبل، إلا أنها أيضا قد جنت عليه جناية عظيمة، إذ جعلته يؤثر الكم على حساب الكيف، والآني العابر على حساب الباقي، والوظيفي على حساب المعرفي، وما يثير ويستثير القارئ الذي هو المتابع على حساب ما ينير حياة القارئ (الضمني)، ويفتح له آفاقا جديدة. لقد أدت أو كادت تؤدي إلى غياب المشاريع النقدية، مقابل حضور ما يمكن تسميته بالثرثرات النقدية أو المناكفات النقدية التي باتت وسائل التواصل الاجتماعي تطفح بها.

العرب: لكن ألا تعتقد أن طبيعة العصر الرقمي تتطلب تغييرا في طبيعة عمل الناقد العربي؟ أقصد هل مازلت تعتقد أن الصحف والمجلات والكتب هي وسيلة الناقد الوحيدة للتعامل مع نشر عمله النقدي؟ أم صار بإمكان الناقد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الملتميديا الوصول إلى القارئ وأداء مهمته بكل يسر وسهولة؟

 

عبدالواسع الحميري: من المؤكد أن وسائل وإمكانات إنتاج النص النقدي قد تغيرت اليوم، كما تغيرت طرق نشر هذا النص ووسائل توصيله إلى القارئ؛ فلم تعد الصحيفة أو الكتاب الورقي الوسيلتين الوحيدتين للتواصل مع القارئ، كما لم تعد الورقة والقلم أيضا الوسيلتين الوحيدتين لإنتاج النص النقدي. لقد غدت الشاشة الزرقاء، بما يتوفر عبرها ومن خلالها من وسائل ووسائط، هي ساحة اللقاء بين الناقد والقارئ، وكانت لهذا اللقاء المفاجئ وغير المتوقع -على الأقل بالنسبة إلى الناقد العربي- إيجابياته وسلبياته.

من بين أهم سلبيات هذا اللقاء أنه بات يسرق منا الكثير من الوقت، دون أن يمنحنا حتى فرصة الإحساس بذلك، فضلا عن أنه صار يبعد الكثير منا عن فكرة “المشروع النقدي الجامع” بما يجعل جهود الكثير من النقاد محكومة بمنطق الفعل وردود الفعل.

أما إيجابياته فهي كثيرة، ومنها أنه يمكّن الناقد من الانفتاح على كل جديد مفيد في مجال تخصصه وفي المجالات الأخرى التي هي على علاقة ما باختصاصه، فضلا عن تمكينه من الإطلال على المشهد الثقافي بكل مكوناته، بما يساعده على إعادة رسم خريطة اشتغاله، وترتيب سلم أولوياته، وبحسب متطلبات كل مرحلة، إنه يتيح للناقد فرصة التواصل (الحي) والمستمر مع زملاء المهنة، للحصول على المعلومة، أو الكتاب الذي يخدم موضوعه (أشير هنا إلى سرعة الحصول على الكتاب الإلكتروني من بعض المواقع أو الصفحات الإلكترونية التي توفر هذه الخدمة بكل يسر وسهولة)، وبما يتيح للناقد العيش صحبة مكتبة متنقلة لا تكلفه جهدا ولا وقتا ولا مالا.

العرب: بعض النقاد صاروا يفتحون قنوات على موقع يوتيوب ويسخرون حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي لخدمة العمل النقدي، ويعتمدون على الكاميرا والعرض التلفزيوني في إنتاج مواد فيلمية (صوت وصورة ومونتاج)، إن جازت التسمية، يقدمون من خلالها قراءات نقدية تفاعلية مع المتلقي… إلى أي مدى، في تقديرك، يمكن لهذا الأسلوب أن يؤدي إلى نتائج أفضل؟

عبدالواسع الحميري: لا أعتقد أن انشغال الناقد (صاحب المشروع) بمثل هذه الوسائل، وبالطريقة التي ذكرت، يخدم العملية النقدية من أي وجه، بقدر ما قد يخدم -أقول قد يخدم- شخص الناقد، ويسهم في تعريف القراء والمتابعين به، كشخص لا كمشروع، لذلك فإن سلوك الناقد مثل هذا الطريق قد يحول الفعل النقدي إلى نوع من الدعاية الرخيصة في سوق الاستهلاك الثقافي لشخصه.

إن القراءات النقدية الإبداعية المؤسسة لا يمكن أن تتحقق في مثل هذه الفضاءات التواصلية العامة، إنها تتحقق فقط في فضاء الانكفاء والعزلة، حيث تتاح للناقد فرصة التأمل المتأني العميق للنصوص التي ينقدها، ومساءلتها، ومساءلة الذات في ضوئها. لقد كنت ومازلت أعتقد أن لحظة الكتابة النقدية الحقيقية هي لحظة تحرر من كل سلطة رقابية، داخلية أو خارجية، خاصة أو عامة، ذاتية أو موضوعية؛ داخلا في ذلك سلطة الأصدقاء والمتابعين، الفعليين والافتراضيين، والتخلص من مشاعر الرغبة والرهبة، فضلا عن مشاعر الخوف والطمع؛ الخوف من أن تستفز مشاعر جمهورك أو متابعيك فتخسر تقديرهم، والطمع في الحصول على المزيد من المتابعين والمعجبين… إلى آخر هذه العوائق، بل الأغلال التي ما تنفك تكبل عقل المفكر الناقد، وتحول بينه وبين التفكير النقدي الحر والمستقل.