د. ياسين سعيد نعمان يكتب : ثنائية الحِلم والحماقة

 

(شبكة الطيف) كتب : د. ياسين سعيد نعمان
قالوا إن ” الحمقى يندفعون فيما تخشى الملائكة الاقتراب منه ” وقيل فيما تعتبره الشياطين حكراً لها .. يتصرف الأحمق كطائش ومتحامل بدوافع تتمحور حول ذاته ، وقد يخسر الأحمق في لحظة نفسه ويخسر كل كل شيء ، لا لشيء إلا لأنه لا يرى للعلاقات الانسانية أي معنى ما لم تصب في مصلحته ، ومصلحة الأحمق لا تتوقف عند حد ، وهو كما قال النووي “من يعمل ما يضره مع علمه بقبحه” .
والاحمق شخص سقط في متاهات تحامله ؛ وأعلى مراتب الحُمق هي السّفَه ، أي المرتبة التي يتخلى فيها الأحمق عن أي محاولة ليصبح انساناً سوياً . كم من الحمقى دمروا أوطانهم ، ثم وقفوا فوق تلال من الأنقاض يستعدون لجولات أخرى .
والحماقة ، التي تسببت في كثير من النكبات التي حلت بالبشرية ، يقابلها كنقيض لها الحِلم .
والحِلم من الصفات البشرية الحميدة التي لطالما وفرت مناخات وشروط أساسية لبناء واستقرار الأمم .
كان الاحنف ابن قيس التميمي من سادة العرب الذين اشتهروا بالحِلم .
سألوا الأحنف : ماذا تعني لك كلمة الحليم ، فأجاب هي الذل مع الصبر . وتفسير كلمة الذل هنا مسألة متفق عليها حينما يذهب معناها إلى الصراع الداخلي للانسان وقدرته على لجم نفسه لتصبر على الأذى الذي يأتيها من الآخر .
لكن هذا “الآخر” ، كي يبدو المعنى واضحاً ، يجب أن لا يكون سلطاناً ، أو حاكماً متعجرفاً ، أو متسلطاً مغروراً ، فالصمت على ما يمارسه من تعدٍ لا يعد هنا حلماً ، ذلك أن عنصر الذل فيه منشؤه القوة القاهرة وعلو منزلة الآخر .
والحقيقة أنه لا يمكن اعتبار تجاوز الاساءة حلماً إلا حينما تأتي الاساءة ممن هو أدنى مرتبة وأقل شأناً وتكون لديك القدرة على رد الصاع صاعين ، ولا تفعل .
لذلك يُستشهد بحادثتين تفسران الحالتين ، -الأولى عندما جاء الاحنف الى دمشق على رأس وفد من قومه بني تميم ليدخلا على معاوية وقد صار خليفة للمسلمين ، ومعروف عن الأحنف أنه قاتل في صفين وفي معركة الجمل ضد معاوية ، فبادره معاوية ، قبل أن يتقبل منه التحية ، وذكره بقتاله إلى جانب خصومه ، فرد عليه الاحنف : والله إن القلوب التي كرهناك بها لا تزال في صدورنا ، وأن السيوف التي قارعناك بها لم تزل في غمدها ، ولم نأتك بحثاً عن عطية أو جاه وإنما لإصلاح أمر المسلمين .ثم أخذ نفسه وغادر .
أين ذهب حلم الأحنف وهو يرد على الخليفة بتلك القسوة ؟ هذا الموقف في الحقيقة يفسر المعنى الحقيقي للحِلم ، فرده هنا على الخليفة أعطى للحِلم معنى أخلاقياً غير ملتبس ، ولو أنه صمت وهو في ذلك الوضع الذي تعمد فيه معاوية تصغيره وإهانة مواقفه القديمة لما اعتبر ذلك حِلماً ، بل انكساراً أمام قوة . والأحنف بالطبع لم يأخذ ذلك الموقف تهوراً ، فقد كانت منزلته في قومه وعند العرب كبيرة لدرجة أن معاوية وهو في أشد بأسه كان يدرك مكانة الأحنف ، وحاجته اليه في إرساء دعائم خلافته ، المفارقة هي أن معاوية أدرك بعد مغادرة الاحنف أن للقوة أحياناً حماقة هي أشد خطراً على نفسها من أعدائها . وأن القوة التي تظهر حلماً في مواطن الانتقام تدرك أن لا شيء يحملها إلى قلوب الناس غير الحِلم . ولذلك عندما سألوه بعد مغادرة الاحنف عن هذا الشخص الذي تحدى الخليفة في عقر داره ، رد عليهم معاوية “هذا الذي إذا غضب غضب له مائة ألف لا يدرون فيم غضب ” .
-اما الحالة الثانية والتي تجسد الحلم وفقاً لوصفه إياه بأنه ذل مع صبر فهي أن اعرابياً وقف أمام الاحنف متحدياً وقال له ، يا أحنف
لئن قلت واحدة لأسمعتك عشراً ، فرد عليه الأحنف ببرود ، وعلى الملأ ، لكن لو قلت عشراً لن تسمع واحدة .
في موقع السيادة وعلو المكانة والمنزلة يكون امتصاص الغضب حِلماً .. وقد رُوي كيف أن البعض كان يبحث عن الشهرة بمجرد أن يقال أنه أغضب الأحنف وأفقده حلمه .
وعلى مر الدهر وحتى اليوم يقف كل من الحليم والأحمق على ضفتي نهر الحياة في مواجهة مستمرة ، فبينما يجتهد الاول ويعمل على بناء جسر عبور للضفة الأخرى من النهر يعمل الثاني على اشعال الحرائق فيه ، وبينما يصب الأول في مجرى النهر شتلات لمختلف المزروعات كي تزهر وتثمر وتبعث في جنباته الحياة ، يملأ الثاني مجرى النهر بمخلفات الحرائق والهدم والملوثات وكل ما يدمر الحياة فيه .
ثنائية الحِلم والحماقة تختزل كل ثنائيات الحياة ، والتناسب بين مكوني هذه الثنائية يعكس طبيعة الحياة ومستوى تقدمها في كل بلد .