خولة شرف.. رحلة عمر بين العمل التربوي والنضالي

خولة شرف.. رحلة عمر بين العمل التربوي والنضالي

(شبكة الطيف) “الشارع”- صفا ناصر:

جالت بعينيها في أرجاء حجرة الجلوس التي جمعتنا في منزلها، زفرتْ تنهيدة. ”لا تعلمين كم ضمّ هذا المجلس من شخصيات، سياسيون وصحفيون، عرب وأجانب، نادمة أنني لم أقيّد أسماءهم“. ثم بصوت هامس وكأنها تحادث نفسها. ”لا بد أن أشرع في كتابة سيرتي الذاتية“.

هي خولة شرف، ولدت في الرابع من تشرين الأول / أكتوبر 1946، في حي الشيخ عثمان بعدن. لكنها عند الولادة كانت تحمل اسمًا اخر.

فبعد أن أنجب والدها ابنتين انتظر بلهفة مجيء الصبي، ثم تزوّج بأخرى، حملت الزوجة الجديدة، فآمن بأنها تحمل الابن المنتظر، واختار له اسم ”غازي“، وعندما وضعت له أنثى، قرر أن يبقي على الاسم مع شيء من التعديل، فأسماها غازية، وحين بلغت الطفلة الست سنوات ذهب والدها ليلحقها بالمدرسة، غير أن نور حيدر، وكانت مديرة المدرسة آنذاك، أعلنت استنكارها للاسم.” لا أراه اسمًا لطيفًا، ما رأيك في اسم خولة تيمنًا بخولة بنت الأزور؟“. راق الاسم للأب، فأبدل اسمها في شهادة الميلاد من غازية إلى خولة.

مرّت الأعوام الأولى من حياة خولة في هدوء ويسر، لم تكن الصغيرة تميل كثيرًا إلى مغادرة المنزل واللعب مع أطفال الحي. ”كنت أحب أن أقضي وقتي بالنظر من النافذة، أتأمل المارة وأشجار المريمرة المنتشرة في الطرقات“.

درست خولة الابتدائية في مدرسة البنات في الشيخ عثمان، ثم الإعدادية والثانوية في كلية البنات في خورمكسر. وفي أثناء ذلك شغفت بقراءة روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، أحبت السينما، واعتادت أن ترافق عمتها إلى سينما ”مستر حمود“ في الشيخ عثمان، ووالدها إلى سينما ”ريجل“ حيث تعرض الأفلام الأجنبية، أما جدتها فكانت تصحبها معها إلى حفلات الأعراس التي تقام في بيوت الحي، فعاشت طفولة سعيدة..

الجونلة الخضراء

كان الوالد ”أحمد شرف“ رجلا تربويًا فذا دون أن يحمل مؤهلًا جامعيًا يعترف له بذلك، شخصية حازمة. لم يلجأ إلى الضرب يومًا، لكنه اتبع طرقًا في التقويم ثبت أنها أكثر جدوى. تحكي خولة: ”كان أبي يعمل في نقل الركاب والبضائع بين شمال اليمن وجنوبه، فكان يغيب طويلًا، وفي أحد الأعوام اقترب موعد بدء الدراسة ولم يكن قد رجع بعد لشراء حاجياتنا المدرسية، خشينا أن يدهمنا الوقت فاشترينا الزي المدرسي بأنفسنا، جونلة خضراء وبلوزة بيضاء. رجع أبي وعلم بالأمر، غضب وأصدر قراره بحرماننا من الدراسة“.

لم تجدِ معه التوسلات ولا البكاء، اعتقدت خولة حينذاك أن القرار كان ظالمًا، لكنها بعد أن كبرت فهمت ماذا قصد والدها من تصرفه. ”أراد أن يعلّمنا الصبر وتجاوز الولع بالمظاهر“. لهذا وكي يسمح لهم بالعودة إلى المدرسة اشترط شرطًا صادمًا. “أمر أن نمزق الملابس الجديدة التي اشتريناها، وهذا ما حصل، كنت حزينة وأنا أمزق جونلتي الخضراء الجميلة بالمقص، وذهبنا إلى المدرسة ونحن نرتدي ملابسنا القديمة، لكننا عندما عدنا إلى البيت ظهيرة ذلك اليوم، وجدنا ملابس جديدة في انتظارنا“.

مع تدرّجها في العمر، عمل الوالد على تذكية الروح الثورية في ابنته. ”كان أبي يأخذني وأنا بعمر 14 عامًا إلى حفلات تقام فيها مزادات لجمع التبرعات لصالح الثورة الجزائرية، أذكر أنه في إحدى المرات أعطاني أقراط أمي وقال اصعدي على المسرح وقدميها للثورة الجزائرية“.

تحلّى الأب الصارم بوعي فكري منعه من أن يفرض على بناته الأربع معتقداته، حتى الحجاب لم يجبرهن على ارتدائه، وترك لهن أمر اتخاذ القرار، وفي عامها الأول في الثانوية شاهدت خولة زميلاتها يرتدين ”الشيدر العراقي“، فرغبت أن ترتديه. ”صارحت أبي برغبتي، سألني إن كنت متأكدة من قراري. قلت: نعم، قال: اذهبي إذن إلى عمتك كي تخيط لك واحدًا“. كما لم يمنعها من الانخراط في أي حراك من أجل الحرية. ففي المرحلة الثانوية حصل إضراب كلية البنات في فبراير/ شباط 1962، خرجت الفتيات في مسيرات وخرجت خولة معهن يطالبن بعزل المديرة الإنجليزية للمدرسة ويهتفن (Mrs. Petrie go away) رغم القنابل المسيلة للدموع التي أطلقها الإنجليز. ”مشينا إلى كريتر، أضعت طريق الرجوع إلى منزلنا في الشيخ عثمان، ثم اهتديت إلى بيت أناس كانت جدتي تزورهم دومًا، وحين وصلت بيتنا وعلم أبي بالأمر لم يغضب ولم يزجرني“.

أما والدتها فتصفها خولة بأنها حنونة، هادئة، رقيقة الطباع، لم ينشب بينها وبين والدها أي خلاف، فمضت الحياة في هدوء..

الثورة خالدة

بعد تخرجها من الثانوية نهاية العام 1965 التحقت خولة بكلية المعلمات، وهناك انضمت إلى تنظيم الجبهة القومية، ”كان أبي دائم الاستماع لخطب جمال عبدالناصر، وكنت أسمع عبارة ”الجنوب المحتل“ تتردد كثيرا في خطبه، تملكتني الفكرة وآمنت بها، آمنت أن جنوبنا محتل وتقع علينا مهمة تحريره، لذا حين عرضوا علي الانضمام للتنظيم وافقت في الحال“. عاد والدها من سفره وأخبرته، لم يعارض بل عرض عليها المساعدة، طلب منها إبلاغه مسبقًا عن أي أغراض يخبئونها داخل المنزل، كي يتدبر أمره في حال حصلت حملات تفتيش من قبل الإنجليز. كان من مهامها توزيع المنشورات، وجمع التبرعات، ونشر دروس التوعية في أوساط النساء في المناسبات الاجتماعية واستقطاب المزيد منهن للتنظيم. اختارت لنفسها اسمًا حركيًا ”خالدة“. سألتها: ”لماذا خالدة؟“، ردت: ”لأن الثورات دومًا خالدة“.

في 1968 تخرجت خولة في كلية المعلمات، وفي العام ذاته تزوجت، ثم أنجبت. وتراكمت الالتزامات، وأضيفت مسؤولية الزوج والأولاد إلى مشاغل العمل والدراسة، لكنها حظيت بالدعم من والدتها التي قاسمتها الأعباء. ”لوالدتي فضل عظيم برعايتها لأطفالي. انشغلت عنهم كثيرًا وكنت أحاول تعويض غيابي في أيام العطل“.

اشتغلت خولة في التدريس في إعدادية البنات في الشيخ عثمان إلى العام 1978، انتقلت بعدها إلى دار المعلمين بمنصب نائبة المدير واستمرت فيه إلى العام 1980 حين أبلغها نائب مدير التربية والتعليم بصدور قرار بترقيتها إلى مديرة مدرسة عثمان عبده الثانوية. ”اكتشفتُ لاحقًا أنها مدرسة بنين، ترددت لكنه أصر، قال لم نجد أفضل منك للعمل“، كادت خولة أن ترفض لولا أن حدثًا طريفًا وقع وحملها على الموافقة. كان شقيقها الأصغر تلميذًا في تلك المدرسة، قال لها: ”حذار أن تقبلي“، تتابع ضاحكة. ”داخلني الشك، قلت إذن سأقبل لأرى أي شيء يفعله ولا يريدني الاطلاع عليه“. لكن التلاميذ هناك كانوا على أرفع مستوى، اتصفوا بالاجتهاد والتهذيب، ثم في العام الذي تلاه تخرجت خولة بدرجة البكالوريوس في التاريخ. ولم تستمر في إدارة المدرسة أكثر من عامين ثم تفرغت لاتحاد نساء اليمن، الذي كانت من ضمن المؤسسات له.

اتحاد نساء اليمن

في العام 1981 وبعد تخرجها من الكلية، ترأست خولة اتحاد نساء اليمن، وكانت تعنى بإنشاء لجان لإرسال الفتيات للدراسة في الخارج بدعم من المنظمات الاشتراكية النسائية. كما اهتم الاتحاد بالدفع بالنساء للعمل في شتى المرافق، في سلك الشرطة والمصانع. ”كان الاتحاد وراء توظيف كثير من النساء في مصنع الغزل والنسيج. كان أغلبهن أميات، فكنا نعقد ندوات ومحاضرات توعية للعاملات داخل المصنع“. تحكي خولة أنه بعد الاستقلال كانت هناك حالة استنفار، كانت مرحلة تأسيس دولة، ولا يمكنك تأسيس دولة رفقة الجهل، فكان لا بد أولاً من التخلص منه. ”انتشرت صفوف محو الأمية في مرافق العمل والإنتاج، كانت الآلات في المصانع تتوقف ويخرج العمال إلى صفوف الدراسة. في العام 1984 كانت الحملة الشاملة والأخيرة ووصلت نسبة الأمية في ”جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية“ إلى 4% بحسب منظمة اليونسكو“. بعد الوحدة اليمنية في 1990 انتقلت المؤسسات والاتحادات والمنظمات إلى صنعاء، ومن ثم سحبت الحكومة دعمها للاتحاد. ”أصبح اتحاد نساء اليمن منظمة مدنية مستقلة، فكان لا بد لنا من الرجوع لمرافق عملنا، عدت إلى التربية والتعليم، كنت رئيسة الاتحاد غير متفرغة في تلك الفترة وأعمل في التوجيه التربوي“.

خولة السياسية والتربوية

في 1993 عرض عليها الحزب الاشتراكي فكرة الترشح للانتخابات البرلمانية، شاركت خولة ونالت العضوية إلى العام 1997، حين قاطع الحزب الاشتراكي الانتخابات البرلمانية. فعادت بعدها إلى التربية والتعليم وإلى عملها في اتحاد نساء اليمن، وتسلمت رئاسة مشروع المرأة الحضري، الذي استمر من العام 1999 وحتى 2003. وهدف إلى إعادة تأهيل المرأة في عدن تأهيلاً حضاريًا، وكان من ضمن خطط المشروع البحث عن موارد لاستمرارية الاتحاد. ”حينها فكرت في إنشاء روضة واقتطعنا جزءًا من مبنى الاتحاد وحولناه إلى صفوف دراسية، هيأنا المكان أنا وزميلاتي في الاتحاد لاستقبال الأطفال، وأسميتها روضة المنارة“. في العام 2003 تركت خولة العمل في اتحاد نساء اليمن. وفي العام الذي يليه تقاعدت من العمل التربوي.

16 عامًا مرت منذ تقاعدها، كبر الأولاد، استقل كل منهم بحياته، تنفق خولة أيامها في الاهتمام بشؤون البيت، ترعى أمها التي تجاوزت التسعين من عمرها، تسعد بأحفادها، تضطلع بمهام ربة المنزل، الدور الذي لم تعشه مطلع حياتها. وشغلها عنه الدراسة والعمل والطموحات. ودّعتها وهي محاطة بالأوسمة والميداليات وشهادات التقدير، بالذكريات التي تبعثها الصور الكثيرة وتزدحم بها خزانة الكتب، تعيد ترتيبها على الأرفف. تطيل النظر إليها وتتمتم: ”صار لزامًا علي أن أدوّن سيرة حياتي قبل أن تتهاوى الذاكرة وتتوارى التفاصيل، آن لي أن أبدأ“.