خطاب الفتن في حرب اليمن!

بقلم : نديم قطيش

ليست المرة الاولى التي يقع فيها امين عام حزب الله حسن نصرالله في شرك التاريخ. مرات كثيرة اخطأ في استعادة حوادث مقدماً إياها بطرق مجتزأة يغلب عليه الاستعجال وتسجيل المواقف السياسية اكثر منه الاهتمام بالبحث والمعرفة. بل هو في مرات سقط في فخ الاستشهاد بخرافات، وقدمها كوثائق تاريخية، وبنى عليها استنتاجات وتصورات ومواقف. لعل ابرز هذه السقطات كانت في عرضه خلال احد المؤتمرات الصحفية ما اسماها رسالة كيسنجر وفيها ما فيها من ألوان المؤامرات وأشكالها ليتبين لاحقاً ان الرسالة ما هي الا نص متخيل للصحافي اللبناني سليم نصار كتبه في مجلة الحوادث اللبنانية لملء فراغ في احد إعداد المجلة نتيجة تأخر وصول بعض المواد الصحفية بسبب واحدة من جولات الحروب في لبنان.

ومثلها المؤتمر الصحافي الشهير لتقديم القرائن حول مراقبة اسرائيل للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبناء نظرية حول اغتيال اسرائلي له، ليتبين لاحقاً ان بعض القرائن المصورة التي عرضها كأدلة تعود الى عقد قبل الاغتيال!!

آخر هذه السقطات في فخاخ التاريخ كانت في خطابه في المهرجان الشعبي لنصرة اليمن حيث استل من بطن التاريخ “وقائع” تعينه على اتهام الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، بانه كان يهم بهدم قبر نبي المسلمين محمد، محددا شهر نيسان ١٩٢٦.

صدق نصرالله بقوله ان العالم الاسلامي كان في حال من الغليان قي تلك الفترة، لكنه طمس أسباب الغليان وألحقها بمعركة وهمية عنوانها حماية قبر الرسول من الهدم على أيدي الملك المؤسس. فات نصرالله، عن قصد او غير قصد، ان العنوان الرئيسي الذي كانت تدور حوله سجالات المسلمين يومها يتصل بمسالة الخلافة التي أنهاها مصطفى كمال اتاتورك على مرحلتين: أولى عام ١٩٢٢ اعقبت تولي عبد المجيد الثاني السلطنة خلفاً للسلطان المخلوع محمد السادس وتجريده من سلطاته الزمنية والروحية وتحويله الى عنوان رمزي للخلافة. اما المرحلة الثانية فلم تتأخر اقل من سنتين حيث ألغى اتاتورك الخلافة كلياً في الثالث من آذار ١٩٢٤ وطرد السلطان عبد المجيد من البلاد.

اندلعت في اثر سقوط الخلافة صراعات دينية وسياسية وصراعات نفوذ استغل كثيرون في سياقها عنوان الخلافة الاسلامية. وسرعان ما أعلن الشريف الحسين بن علي نفسه خليفة للمسلمين، مستنداً الى نسبه العربي الهاشمي، من دون ان ينجح في استقطاب تأييد المسلمين له. ولعلها من مفارقات خطاب نصرالله ان يركز على كل من الهند ومصر في معرض روايته، وهما الدولتان اللتان تصدرتا معارضة خلافة الشريف الحسين.

يكفي ان يكون المرء ملماً بالخطوط العامة لتلك الحقبة ليعلم ان احد ابرز الطامحين لتبوء منصب خليفة المسلمين كان ملك مصر فؤاد الاول الذي انشغل في سنوات العشرينيات من القرن الماضي بمقارعة الملك السعودي عبد العزيز، الذي كان يحقق انتصارات عسكرية متتالية لتوحيد الجزيرة العربية وإلحاق الحجاز، حيث مكة والمدينة، بنجد.

وقد شهدت تلك الفترة تأسيس مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، بعد أن قامت سلطنة نجد وملحقاتها بضم مملكة الحجاز تحت قيادة الملك عبد العزيز وكان لا يزال سلطاناً لنجد، وتم تنصيبه ملكاً على الحجاز بالحرم المكي مطلع العام 1926. وبعدها بعام، استبدل لقب السلطان بلقب الملك.

ولئن كان الملك فؤاد يسعى بحرارة لاختطاف لقب الخليفة سارع بمعاونة الأزهر لعقد “مؤتمر عالم المسلمين” عام ١٩٢٥ علّ المؤتمر يبايعه خليفة. لكنه لم ينجح في حشد الحضور ولا في استدراج المبايعة، لأسباب أقلها وقوع بلاده تحت الاحتلال الإنكليزي.

ومن الأدلة التي توثق حدة الصراع وقتها وانهمام الملك فؤاد بالتحشيد لخلافته، السجال الذي اثاره احد كبار علماء المسلمين الشيخ علي عبد الرازق، الذي تصدر المدرسة الليبرالية الدينية المناهضة لفكرة الخلافة، وفندها في اشهر كتب الاسلام “الإسلام وأصول الحكم”. فما كان من الملك فؤاد الا ان رعى مؤلفٍ مضاد، وضعه الشيخ خضر حسين، تحت عنوان “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم” الذي أهداه كاتبه ل “حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم”!!

في سياق هذا الصراع، وفورة السجالات حول الهوية الاسلامية ومستقبلها، استخدمت كل الأسلحة وكان ابرزها رعاية الملك فؤاد لحملة تجريد السلفية من الأهلية الدينية لولاية امر المسلمين، وهو ما لم يكن يوماً بين هموم الملك عبد العزيز، الذي على عكس الملك فؤاد لم يكن مهتماً بمنصب الخليفة. ومن الأسلحة التي اعتمدت وقتذاك حرب الشائعات، التي بنت على بعض فتاوى السلفية المناوئة للبناء على القبور، لا سيما بناء القباب. وبالفعل شهدت حقبة العشرينيات هدماً لقباب قبور الصحابة في مقبرة البقيع، وليس هدماً للقبور نفسها او تجريفها من اساسها كما اوحى حديث نصرالله. ولما انتشرت بين العوام شائعة تتصل بهدم قبة قبر الرسول، واستعرت المشاعر جراءها، كتب شيخ شيوخ السلفية، محمد رشيد رضا في مجلة “المنار” المنتشرة في مصر، مقالاً نفى فيه الشائعات هذه فيما اوفد الملك عبد العزيز رسولاً للملك فؤاد ليبدد ما انتشر بين العوام.

وللمناسبة فان قبة قبر الرسول، وهي اليوم قبة المسجد النبوي، لم تكن من أصل عمارة القبر نفسه، بل أضيفت لاحقاً، بأمر من الملك قلاوون الصالحي عام ٦٧٨ هجري. ما يطرح علامات استفهام كثيرة على أصل فكرة بناء القباب، لكن هذا بحث آخر.

غيب نصرالله كل هذا السياق، وأوحى ان الفتوى تطال القبر نفسه، وليس القباب المبنية عليه، اي ان الهدم سيطال القبر بحجارته والعبث برفاة من يحتضنهم القبر، وهم الى جوار الرسول، الخليفتان ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفي هذا شأن عظيم للمسلمين لأي مذهب انتموا.

ومن المفارقات بالغة الدلالة التي غيبها نصرالله، ان المؤتمر الذي فشل الملك فؤاد في عقده والاستحواذ على المشروعية الاسلامية من خلاله، نجح الملك عبد العزيز في تنظيمه نجاحاً باهراً. فقد عقد الملك عبد العزيز “مؤتمر العالم الاسلامي” يوم 26 ذو القعدة 1344هـ الموافق 05 يونيو 1926م في مكة المكرمة للبحث في شؤون المسلمين، من دون ان يدرج ، مسألة الخلافة على جدول أعماله ولبت الدعوة أقطار إسلامية كثيرة.

المفارقة في نبش نصرالله المتعجل والمبتسر في تاريخ الاسلام الحديث انه استعان بمرويات وشائعات ازدهرت في سياق صراع النفوذ بين مصر الملك فؤاد والملك عبد العزيز آل سعود، اي في الفترة التي كانت تشهد بروزاً للنفوذ والحضور السعودي، بعد ان كانت مصر محمد علي هي من أسقطت الدولة السعودية الاولى. وهو يستعيد هذا النقاش اليوم في لحظة تشهد صحوة قيادية سعودية مماثلة مع فارق القياس. اي انه يستعيد هذه المرويات اليوم في سياق صراع النفوذ بين السعودية وإيران لا اكثر ولا اقل.

المسألة ليست مسألة قبور، بل ما يعتلج داخل الصدور. انها، فعلاً، عاصفة الحزم يا عزيزي.

نقلاً عن المدن