إصلاح سلسلة توريد الإبداع

ديفد بيري

عندما كنت طالب دراسات عليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أتيحت لي الفرصة للعمل مع الأستاذين روبرت لانجر ورام ساسيسخاران في بيئة تعج بالتفكير الإبداعي.

إن الإبداع أمر صعب، وإذا كان المرء راغباً في اجتياز حدود المجهول، فيتعين عليه أن يتبع المسار الذي يَعِد بأعظم أثر محتمل. وفي استكشاف مجموعة واسعة من الموضوعات -الطاقة والزراعة والطب وغير ذلك- فإن نهجاً واحداً ظهر، من خلال خبرتي الشخصية، باعتباره الأكثر فعالية، وهو يتلخص في أن يبدأ المرء وقد وضع النهاية نصب عينيه.

ومن خلال تحديد المشاكل وتصور الحلول المفضلة، يستطيع المرء أن يحدد المجموعة من القيود التي تحكم الإبداع التكنولوجي وأن يؤسس مساراً واضحا، وإن كان صعباً في أغلب الأحوال، لتحقيق إبداعه.

ومن بين الشروط الأساسية لتبني هذا النهج، العقل المفتوح الذي لا تقيده العقيدة المميزة لموضوع البحث. وأولئك الذين ينغمسون في أي ميدان من ميادين المعرفة لديهم وجهة نظر راسخة لما هو ممكن، استناداً إلى بعض التركيبات من النجاحات السابقة، وانحياز الاقتباس، والحدود الحالية للمعرفة، والحقيقة، وغالباً ما يكون من الصعب التمييز بين هذه المصادر. ولكن الوافد الجديد الذي يطرح التساؤلات الأكثر أساسية يبدأ بملاحظة التناقضات المنطقية، التي تنشأ منها الحدود التكنولوجية والقيود الحقيقية المفروضة على الحلول.

وتكمن الاختراقات الحقيقية هنا في التقاطع بين الاحتمال التكنولوجي وثِقَل السوق. وفهم هذه القوى من شأنه أن يمكن المبدعين من تحسين عملية توجيه الاختراع. وفي ظل قيود محددة بشكل جيد، يصبح من الممكن تخطيط المسار الواضح نحو تطوير التكنولوجيات الإبداعية، وهو المسار الذي يضع في الحسبان كلاً من المعلوم والمجهول. ولقد أنتج هذا النهج غير التقليدي بشكل ثابت تكنولوجيات رائدة، وإذا تم تنفيذها بنجاح فإنها كفيلة بإحداث ثورة في أي حقل من حقول العلم.

الحلول الإبداعية
ولكن الأمر الذي قد يكون أكثر إثارة للاهتمام يتلخص في الاستجابة التي كثيراً ما يثيرها مثل هذا التقدم: “هذا يبدو واضحاً للغاية. لماذا لم يفعل ذلك أي شخص من قبل؟”. في وقت مبكر من حياتي المهنية، كان رد الفعل هذا يثير حيرتي، وكان يجعلني أتساءل عما إذا كنت قد أغفلت شيئاً واضحا. ولكن مع نمو خبرتي مع الإبداع في مجال المشاريع أدركت أن هذه الاستجابة تضرب بجذورها في حقيقة مفادها أن أغلب الناس يحصرون أنفسهم في عقيدة محددة، وهو ما يؤدي إلى حجب الحلول الإبداعية التي تتجاوز حدود هذه العقيدة.

وتعرض الشركات سلوكاً مماثلاً عندما يتعلق الأمر باقتناء التكنولوجيات المبدعة، فتتمسك بعمليات غير فعّالة وتقليدية على الرغم من توفر البدائل الواضحة: الأنظمة الفعّالة التي يستخدمها المصنعون لتأمين المدخلات اللازمة للإنتاج. ومن أجل إنشاء مسار واضح وقليل المخاطر لإنتاج السلع بتكاليف متوقعة (وفي المتناول) فإن الشركات تبادر إلى توظيف فرق مكرسة لتأمين سلاسل الإمداد ذات الصلة، ومراقبة المخزون، وإدارة عملية الإنتاج، وما إلى ذلك، من نقطة المنشأ إلى نقطة الاستهلاك.


يتعين على الشركات أن تستعيض عن النهج الراسخ في التعامل مع سلسلة إمداد الإبداع بنهج آخر أقرب إلى الكيفية التي تنشئ بها سلسلة إمداد التصنيع وتصونها

وفي العديد من الحالات، ينطوي هذا على الحفاظ على العلاقات مع شبكة مخصصة من الموردين، التي يتقاسم معها المنتجون مواصفات الإنتاج التفصيلية. وهذا من شأنه أن يضمن حصول المنتجين على ما يحتاجون إليه بالضبط، وقدرة الموردين على تسليم المدخلات الصحيحة. والنتيجة هي علاقة عاملة جيدة التحديد، وعالية الإنتاجية، ونافعة بشكل متبادل.

وعلى النقيض من هذا فإن سلسلة توريد الإبداع (العملية التي من خلالها تحصل الشركات على منتجات المستقبل و/أو تطور وتحسن منتجاتها الحالية) تميل إلى التميز بعد الكفاءة، والغموض والمنافسة. وفي العديد من الحالات لا توجد سلسلة إمداد في الأصل.

فمعظم شركات الأدوية، على سبيل المثال، تفتقر إلى سلاسل توريد الإبداع الفعّالة. ولكن نحو 15% فقط من الأدوية التي وافقت عليها إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة مؤخراً كانت مطورة بواسطة نفس الشركة التي تسوق لها وتبيعها، وهذا يعني أن العديد من شركات الأدوية الكبرى تعتمد على نظام الإبداع في تطوير منتجاتها.

وكثيراً ما تشكو شركات الأدوية من أن الشركات التي تستمد منها الإبداع لا تجري تجارب سريرية تتفق مع مواصفاتها الخاصة، الأمر الذي يضطرها إلى تكرار العمل. ومع ذلك فإنها تتحفظ في تقديم مثل هذه المواصفات مقدما -حتى عندما يطالبها المبدعون بذلك- ربما لحماية أوضاعها في السوق أو جهودها في الداخل. وعلاوة على ذلك، فإن نفس الشركات تتنافس بشكل مباشر في توريد التكنولوجيات المبدعة. والنتيجة هي انقطاع سلسلة الإمداد.

وتماماً كما يتعين على المبدع الفرد أن يتحدى الحكمة التقليدية، فيتعين على الشركات أن تستعيض عن النهج الراسخ في التعامل مع سلسلة إمداد الإبداع بنهج آخر أقرب إلى الكيفية التي تنشئ بها سلسلة إمداد التصنيع وتصونها.

وإذا كان القائمون على السوق على استعداد لإشراك غيرهم في “مواصفات الإبداع” (وهو ما لا ينبغي لنا أن نخلط بينه وبين أساليب الإبداع وطرقه)، فسوف يكون بوسعهم إقامة شبكة فعّالة من موردي الإبداع، وبالتالي زيادة القدرة على الاعتماد على محركات تطوير المنتجات. وكما هي الحال مع سلاسل إمداد التصنيع الفعّالة، فإن المورد والمشتري لابد أن يعملا على بناء علاقة متبادلة، حيث لا ينافس كل منهما الآخر، عملياً أو اقتصاديا، في الأنشطة المحددة التي يقوم بها.

إن سلسلة التوريد التي تتسم بالكفاءة قادرة على تحويل الإبداع على المستويين الفردي والصناعي. والواقع أن نهجاً مشتركا -تحديد احتياجات السوق الرئيسية، وإقرانها بالقيود المرتبطة بالحلول، ودفع حدود الفكر الحالي- ينطبق على أشكال الإبداع كافة. وفي إطار نظام للإبداع منظم بما يتفق مع هذه الأسس، يصبح في الإمكان تحقيق التقدم “الواضح” بسرعة أكبر كثيرا. ولكن تُرى إلي أي مدى قد يكون هذا واضحا؟

_________________
ديفد بيري: مخترع ورجل أعمال وشريك في شركة رأس المال الاستثماري “فلاج شيب للمشاريع”.

المصدر:الجزيرة