محمد ناجي احمد يكتب : بعض بوح بعض ذاكرة الحلقة(13) والأخيرة

محمد ناجي احمد يكتب : بعض بوح بعض ذاكرة الحلقة(13) والأخيرة

(شبكة الطيف) كتب/ محمد ناجي احمد

عام 1993م حين كنت أطرق ابواب المنظمات وأحمل رسائل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين من أجل إعادتي إلى مقاعد الدراسة الجامعية، كان موقف التنظيم الناصري من خلال أمينه العام عبد الغني ثابت هو أن أتقبل وأستسلم لقرار الفصل، ويتم توظيفي داخل مقر اللجنة المركزية، ضمن عديد موظفين تابعين لقيادات أبوية.
لم أرغب بذلك وشعرت بالتأفف أن تكون ذنبا داخل بنية تنظيمية أراها مأزومة في فكرها وفي إدارتها الأبوية للعمل السياسي والتنظيمي.
مع الأخذ بالاعتبار أن فترة أمانة عبد الغني ثابت للتنظيم كانت فترة انتشار وتوسع، لكنه توسع برؤى وبرنامج وآليات عمل تم استساخها من بقايا أدبيات المؤتمر الخامس لتنظيم الطلائع الوحدوية اليمنية ” المنعقد عام 1977م في مدينة الحُديدة. توسع بفعل العاطفة دون فكر مواز يوجه وينظم كتلة المشاعر لتصبح فعلا ماديا.
ذهبت لمقابلة الدكتور عبد العزيز المقالح، الذي وجه الدكتور فضل أبو غانم بالنظر في موضوع فصلي من الجامعة، لكن رد فعل أبو غانم كان الانفعال وإلقاء خطبة عن وطنيته، وأنني أستحق الفصل والحرمان النهائي من الدراسة!
وبعد انتهاء العام الدراسي كانت العودة بتوجيه شفهي من الدكتور عبد العزيز المقالح إلى الدكتور محمود داؤود الذي صادفت زيارته للدكتور المقالح وجودي في مركز الدراسات.
عدت لأستأنف دراسة المستوى الثالث للعام الدراسي 1993/1994، مزاملا لأخي جميل ناجي، ولنتخرج معا عام 1995، أنا بتقدير جيد جيدا، وهو حصل على تقدير مرتفع جعله الثالث على الدفعة، وإن كان بقدراته المؤسسة على سعة حفظه يستحق أن يكون الأول، لكنه ليس متحزبا، بل متدينا كخيار شخصي، يرفض أن يكون في إطار جماعة، بل ويبتعد عن كل أشكال الظهور أو التأثير على قناعات الناس، تَدَيُّن تحس بنوره ، يبتعد عن أن يكون قدوة تستقطب الآخرين، يكفيه أن ينير قلبه لذاته. كانت الاستحواذ على مرتبة الأول في جميع التخصصات احتكار حزبي لطلبة تجمع الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام، ليس عن كفاءة وإنما محاصصة سياسية لتعيينهم معيدين في الجامعة.
رغم كل التحديات والإعاقات تخرجت ضمن عشرين طالبا حصلوا على مرتبة جيد جدا من مجموع اربعمائة طالب، وهي نتيجة أراها اجتراحا للمستحيل إزاء حالة التشتت والإنهاك، وإزاء العدوانية التي تحيط بي، وتعدد اهتماماتي.
في رحلتي لاستعادة مقعدي الدراسي التقيت بصنعاء بالأخ توفيق المقطري-الدكتور حاليا، كنت قد تعرفت عليه عام 1990- كان يحضر للدراسات العليا حينها، وقد أوقفوا منحته المالية، لكنه قاوم، وقد توهمت أن محيطه العائلي ساعده على استكمال دراسته العليا للماجستير والدكتوراه، لكنه في تعقيب له وضح فيه كيف واجه قرار فصله من الجامعة، وسوف أضيف تعقيبه حين أعد هذه الحلقات في كتاب. وبالمقابل التقيت بهاشم العزعزي الذي كان يعمل موظفا في جامعة صنعاء، لكن شعوري نحوه أنه صناعة هشة لسلطة هشة. صناعة مناضل بمقاييس ومعايير السلطة الحاكمة. وشعوري هنا ليس مجرد عدم استلطاف وإنما استقراء لحيثيات ومآلات، أوصلته ليكون وكيلا لمحافظة الحديدة، ضمن محاصصات ما بعد 2011، وهي محاصصات في أغلبها لا تخرج عن إطار العناصر ذات الولاء لـ”رؤوس الثعابين” أي ذات الولاء لمراكز القوى في السلطة.
في حلقة سابقة كنت قد تحدثت عن مجلة “نشرة” “التحالف”، التي اصدرها فرع التنظيم بتعز بداية التسعينيات، وقد عقب الأخ عبد الله الدهمشي بأنه هو صاحب فكرة النشرة، لكن الذي أعرفه أن مقترح المجلة تم تقديمه للمكتب التنفيذ للتنظيم الناصري باسم الأخ عبد الوهاب الحسامي، وعادل العقيبي، وكنا ثلاثتنا عبد الوهاب وعادل وأنا نمثل هيئة التحرير، فعبد الله الدهمشي كان مقصيا من قبل قيادة الخارج، ومن عبد الملك المخلافي الذي خاطب قيادة فرع التنظيم بالحذر منه واستبعاده. وهكذا كان التنظيم يقصي ويخصي كل قدرة مبدعة ومخلصة، ويقرب الأذناب والأتباع ففي ذلك يستمرون المالكين الحصريين لدكاكين النضال!

عودة لعبد الحبيب سالم مقبل:
كان عبد الحبيب سالم مقبل نجم الصحافة في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، يمتلك أسلوبا كتابيا يتلقاه القراء بشغف، فعبارات الرفض، وسقف الشجاعة الكتابية الجريئة كانت تراكم له رأسمال كبير من القراء، مع مساندة من بيت هايل سعيد أنعم بدت واضحة في حملاته الانتخابية ونجاحه إلى مجلس النواب. وتواصله المستمر مع قادة العمل السياسي في الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري بتعز. مع وقوف شطر من المؤتمر الشعبي مؤيدا له.
كتب الدكتور نديم الشرعي ذات مرة أنه كان للرئيس علي عبد الله صالح لقاء في تعز في القصر الجمهوري بعدد من الأكاديميين والصحفيين، ربما كان ذلك في عام 1994، وصادف ان كان مكان جلوس عبد الحبيب سالم جوار أحذية الضيوف، فما كان من الرئيس إلاَّ أن علّق قائلا: نعمل على رفعكم لكنكم تأبون إلاَّ تكونوا جوار الأحذية.

ومن السيناريوهات التي تعبر عن ضغينة وحسد عز الدين سعيد احمد “عزالدين الأصبحي” لعبد الحبيب إيراده لحكاية حرص عبد الحبيب على أن يرافق عبد الله نعمان وعلي محمد قاسم سيرا على الأقدام في مدينة تعز عديد مرات، فبحسب التفسير البوليسي لعز الدين كان حرص عبد الحبيب هو إيصال رسالة لجمهور الاشتراكي والناصري حين يرونه مع قادتهم أنه محل رضى الحزبين.
بالتأكيد لقد كان عبد الحبيب مضيئا بذاته، لهذا كان اغتياله، فالتافهون والمرتهنون كليا هم من يستمرون صعودا في سلم الانتهازية، لأنهم أموات في ضمائرهم. وعبد الحبيب بذاتيته وأناه أراد الحياة بصيغة توفيقية تستقرئ صراع موازين القوى وتَنْفَذ منها وبها؛ أي تخليق الذات والأَنَويّة من هامش صراع قوى السلطة.
في ذات المنحى كان طريق عبد الله سعد، المراهنة على القوى الثالثة “اتحاد القوى الشعبية” وصحيفة “الشورى” وتلك أوهام المثقف، فالحرية لا تتخلق من أقبية شديدة السطوة، وإنما تتخلق من وميض وضَوء الناس. لهذا كانت النتيجة اغتيال عبد الحبيب سالم مقبل وعبد الله سعد، واستمرار بقاء عز الدين سعيد أحمد، كنموذج لمن باع إمكانية الضوء داخله لهيمنة عتمة السلطة، ليصبح عضوا في الهيئة العليا الحكومية لمكافحة الفساد، ثم وزيرا لحقوق الإنسان ثم سفيرا لليمن في دولة المغرب.
بكل تكثيف واختصار كان عبد الحبيب صوت الحرية في سياق هامش السلطة وتناقضاتها، لهذا عندما تتصالح مراكز القوى يكون الضحية المثقف/الصحفي.
مما كتبه فيصل دراج في مقدمته لكتاب “بؤس العالم” لـ”بيير بورديو”:
“فالمثقف ينظر إلى السلطة بحثا عن تميز اجتماعي حقيقي وسلطة وهمية، بينما تتخذ السلطة من المثقف جسرا لإلغاء الثقافة، أي أنها تلغي المثقف وهي تعترف به، ذلك أن اعترافها به يُتَرْجَم بتحقيق مصالحه الشخصية، عوضا عن يترجِم ذاته بتطوير وتحرير وإغناء الحياة الثقافية، أي إضفاء فضائل متعددة على السلطة هي غريبة عنها، مما يجعل الواقع، إن أمكن، وظيفة وحيدة للمثقف السلطوي، وبالتأكيد، فإن ثقافة السلطة، او الثقافة السلطوية، تختلف من بلد إلى آخر، وفقا لمدى تطور.”

لم يكن عبد الحبيب سالم مقبل نموذجا للمثقف العضوي أو الملتزم للمعرفة وإنما نموذجا للمثقف الذي يتحرك ضمن هامش السلطة وتناقضاتها، ولهذا حين تأتلف مراكز قوى السلطة تقرر التخلص من هامش تناقضاتها فيكون الضحية الصحفي الذي اندفع معبرا عن ذلك الهامش.
لم يكن عبد الحبيب ذلك المثقف الثوري، لكنه كان معبرا عن لحظة من لحظات تناقضات السلطة، وعند ائتلافها يتم الاستغناء عن الصحفي وتصفيته.
تلك كانت مأساة عبد الحبيب وتراجيدية التخلص من عبد الله سعد الشجاع والجريء.
السلطة لا يتسع صدرها لمن في عقولهم وقلوبهم جذوة الرفض، وتكون ذواتهم مزهرة، لكنها تستثمر التافهين ممن يبحثون عن ديمومة الحياة.

أختتم “بعض بوحي وبعض ذاكرتي” بالقول إن المآلات التي وصلنا لها كانت نتيجة منطقية لسلسلة من الانهيارات، ومع 2011 كنا أمام رغبة في النهوض، دون قدرة ودون تنظيم، وكانت قوى السلطة جاهزة لتتقاسم الدولة، وتفكك الجغرافيا وتسقط مكتسبات الثورة اليمنية، لنجد أنفسنا أما إحياء ظواهر اجتماعية لما قبل الدولة الوطنية.
سُحِقَت آمال القوى الشعبية المنتجة، ووصل الشباب المشارك بانتفاضة 2011 إلى الكفر بـ”الثورة” بما هي في نتائجها تحلل للدولة وتفكك للجغرافيا ونهوض للطائفية، وإفقار للمجتمع، وتجهيل، وموت مجاني بماكينة الحرب أو بالجوع والأمراض.
تسلطت قوى ما قبل الوطنية بأقنعتها الطائفية المتعددة، مذهبيا وجهويا ومناطقيا، وعرقيا، ووصل الناس بخوفهم وجوعهم وتجهيلهم إلى عجز شامل وكامل يجعلهم غير قادرين على الخروج من معتقلات الطائفيين الذين تقاسموا الجغرافيا والثروة واستعباد الناس.
أحالت “السلطات الطائفية” الأرض والناس إلى “جزر عبيد مفككة” بالخوف والجوع والمرض والجهل.
كانت قوى النظام سباقة بثورتها المضادة، في مقابل عجز قوى الثورة وانعدام جاهزيتها لإحداث التغيير الثوري. لقد كانت قوى الثورة المضادة هي الجاهزة لسحق ما تراكم طيلة عقود الثورة اليمنية ببعديها الاجتماعي والسياسي،
كانت معالم هذا الانحطاط واضحة في إبراز لا فتة تطالب بتغيير رأس النظام، والذود عن ركائز النظام دستوريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
وعمل إعلام مشيخات الخليج ماكينة حرب موازية في خدمة هذا الانهيار، وسلط الضوء على ظواهر اجتماعية إحياء لها، من سرقات وقتل وثأر، وغسل العار، والتضييق ومصادرة حريات الناس، وتكريس لوهّابية العادات والمعتقدات، وتحويل السلطة إلى كاميرا لمراقبة سلوك الناس وتجمعاتهم . اهتمام مفرط بالأنساب، وجرائم التعذيب والقتل، وصناعة نجوم يعكسون قيم القاع الاجتماعي، وتقديمهم على أنهم نجوم، للشاعر والفنان والممثل والإعلامي والمقاوم والمحلل السياسي.
تم محو الطبقة الوسطى لنصبح مجتمعا للفقراء، وثقافة الفقر. وطبقة من أمراء الحرب الذين استثمروا سنوات الحرب برعاية دولية وإقليمية ومن مطبخ واحد يدير ويوجه الجميع، وإن بدوا أعداء لكنهم يتقاتلون بالناس!