بعض بوح بعض ذاكرة الحلقة (12) ما قبل الأخيرة

بعض بوح بعض ذاكرة الحلقة (12) ما قبل الأخيرة

(شبكة الطيف) كتب/ محمد ناجي احمد

من عنوان هذه الحلقات فإنها بعض بوح لا كل الحكاية، فاكتمال القول نقصان.
العديد من الأصدقاء يطلبون المزيد من البوح، لكن الكتابة لديّ استمرار لكتابة متصلة وعضوية، بينها خيط جيني رابط منذ كتابي “نقد الفكر الأبوي” الذي شمل ما كتبته خلال سنوات 1999-2002/وصولا إلى هذا البوح، بما أنه بحث في الذاكرة والفكر في آن.
أعلم أن الكتابة هي مراكمة وتوسيع للرؤية، وهي كذلك مراكمة لاحتقانات العصبويات التي قمت بتفكيكها، في مكاشفة أردتها أن تكون عالية الاشتباك.
ليس هناك مكاشفة مطلقة طالما هناك تحيزات مضمرة “تفلتر” القول، لكنني بقدر ما أطلقت العنان للسان فكري أن يتحدث ويتأمل.
عاطفيا هناك أصدقاء وأقرباء ووجوه وأمكنة وأحداث أحمل لها مشاعر محبة ومودة، لكن الكتابة حق للأجيال فهي الباقية ونحن الزائلون كأجساد نبتت هنا ثم مرت في طريق تحولات الضوء.
المطلق هو تدفق الحقيقة واتساع دوائرها، فنسبيتها في حركتها المستمرة ومنظوراتها المتعددة، وكثافة لغتها وتجليات قولها.
نحن زائلون لكن ديمومة القول هي الباقية، الكينونة ضوء، والمادة طاقة متدفقة، لا تسكن إلاّ كتجسدات في جريانها.
الحكاية هي الدائمة التي لا تفنى، لذلك الأديان تمجد الكلمة لأنها المبتدأ الذي يحدد كينونة الخبر، إنها الطاقة الخلاقة التي لا تنفذ كلماتها.

في عام 1991 ومع الاستفتاء على الدستور استطاع التجمع اليمني للإصلاح وبتواطؤ المؤتمر الشعبي العام، الذي لم يكن مجرد مظلة للإخوان فحسب بل تنظيمهم العلني، والسلطات المحلية في المحافظات أن يحقق نجاحا ملموسا في مقاطعة الاستفتاء على الدستور. كانت صناديق الاستفتاء في تعز تخلو تقريبا من الناس!
نجحوا في خلق حائط صد، حائط خوف يمنع الناس من الذهاب لقول نعم للدستور، لقد جعلوا التصويت بنعم للدستور تصويتا ضد حكم الله وشريعته.

في محاضرة الأستاذ عبد المجيد الزنداني التي ألقاها عام 1993 في قاعة الزبيري بكلية التربية بتعز، في سياق نشاط قادة التجمع اليمني للإصلاح ونفيرهم كان اعتراضي على الزنداني هذا التسعير للحرب.
انتهت المحاضرة وعند الخروج من قاعة الزبيري التفّ حولي عشرات الإصلاحيين، في دوائر عديدة وجدتني داخل قبضتها، كانت تلك الدوائر ممارسة تنظيمية تدربوا عليها، ذكرتني بدائرة الإعدام في معتقل الأمن السياسي عام 1992، وبالحلقة المدورة التي رتبها ضدي عبد الله نعمان ذات جلد بسياط القول في صنعاء عام 1983م!
ليس هناك غرابة في المماثلة فالأمن السياسي ذراع أمني لتجمع الإصلاح، وتجمع الإصلاح في بنيته تنظيم أمني في الأساس.
ما إن وضعت قدمي خارج قاعة الزبيري إلاَّ ووجدتني أسيرا داخل تلك الدوائر الملتفة بخناقها، هي ممارسة اعتادوا عليها، ففي كل نقاش معهم منذ عام 1990م في ساحة الكلية جوار القصر الجمهوري وهم لا يناقشونك كأفراد بل كعصبة تنظيمية.
قال أحدهم ويدعى أمين الصرمي- زميلي في قسم اللغة العربية-كنّا نظن أن فيك قدرا من الإيمان نراهن عليه كي تصل إلى الحق -ما هم فيه هو الحق بحسب عقيدتهم- لكنك اليوم أثبت لنا انعدام الإيمان فيك…
الاعتراض على خطاب وخطبة الزنداني كفر، وبعد عن الإيمان!
هكذا نشأ فتية الإخوان المسلمين، ضمن عقيدة التسليم والولاء والبراء، وتقديس لحوم العلماء، فلحومهم مسمومة، ومن تناولها فحكمه الطرد من رحمة الله وملكوته!
وأنا ارتكبت من وجهة نظرهم إثما مبينا في الاختلاف مع شيخهم. فمقولة ابن عساكر “لحوم العلماء مسمومة” كانت تتردد على ألسنتهم وكأنها أصح الصحاح/ وليس من الصحاح فقط، رغم أنها مقولة لمؤرخ لا حديث آحاد ظني لا تبنى عليه عقيدة.
فإذا كان حديث الآحاد ظني الدلالة فإن عبارة ابن عساكر في التربية الإخوانية نص قطعي الامتثال والإيمان والتسليم بقداسة الشيخ، وأنه لا ينطق عن الهوى.

سأعود بذاكرتي إلى عام 1983/1984 حين كنت في الصف الثالث الإعدادي أو في صف أول ثانوي، كان الإخوان المسلمون قد أسسوا في حارة وادي المدام نادي “الميثاق” وطلبوا منا في نادي “الفكر” أن نكون وهم ناديا واحدا. لم نكن نعلم أنهم فرع من نادي الأحرار التابع للإخوان المسلمين في تعزز انضممنا معهم في نادي الميثاق، وكانت المسئولية الثقافية للنادي لي والمسئول المالي رضوان شاهر، أي هذه حصة نادي الفكر الرياضي والثقافي، وكان رئاسة النادي وباقي المهام من حصتهم :أحمد عبد الله محمد سيف وأحمد غالب القدسي ونبيل شمهان. في تلك المرحلة كان الصديق عبد الرقيب الغانمي مع الإخوان وزميلا في الدراسة لأخي جميل ناجي الذي يصغرني بعام، وفي الدراسة بعامين. يبدو ان عبد الرقيب كان متأثرا بخاله الشيخ محمد حسن دماج، أحد القادة المؤسسين لحركة الإخوان في محافظة إب. لكن دراسة عبد الرقيب الغانمي لعلم الاجتماع جعلته يبتعد عن الإخوان كونهم بحسب قوله “تنظيمات عقائدية مسكونة بهوس جهادي ومتكئة على تأويلها “وأعدوا لهم…”” ذلك كان تفسيره لانخراطهم بحرب 1994م.
كان للنادي عديد أنشطة ورحلات لـ”القاعدة” و”الجعدي” و”الخوخة” و”المخا” و”وادي مُلك” . وفي الرحلات يتم ترديد مأثورات لحسن البنا.
حين وجدتني مجرد لافتة في النادي وأن المسئولية الثقافية يقررها أحمد غالب القدسي كان اتفاقي مع رضوان شاهر المسئول المالي على “كنسلة النادي” قمنا بتوزيع الجرامات وكانت باللون الأحمر وهي لون نادينا “الفكر” وتوزيع ما بحوزته من مال على أعضاء الناي.
تعرضت نتيجة ذلك إلى السب والشروع بالضرب، وكانت خطبة الجمعة التي ألقاها نبيل شمهان في مسجد الحارة “مسجد عمر بن الخطاب” تتناول ما وصفوه بالعلماني القومي محمد ناجي…
بضعة أسمار حضرناها في نادي الأحرار كأعضاء في نادي الميثاق، وكان “شوقي القاضي” وبصوته الجهوري والمكبرات الصوتية التي تزيده ضخامة وبيانا يردد في كلماته بتلك الأسمار بكائياته عن عبد الفتاح إسماعيل الإخواني الذي قتل في عهد “الكافر” و”الطاغية” “جمال عبد الناصر” ويردف ذلك بتكفير وسب عبد الفتاح إسماعيل الشيوعي!
الأصل التربوي الذي نشأ فيه وعليه شوقي القاضي هو ثقافة التكفير للمختلف، وتنزيه وتقديس المؤتلف. لهذا نجد قشرة التسامح سرعان ما تذروها الأحداث في المنعطفات الحاسمة والمفصلية، ليبدو جليا شوقي التكفيري في السياسة وفي العقيدة!