محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (6)

محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (6)

( شبكة الطيف ) كتب / محمد ناجي احمد

البهائية في “تبرج الخفايا”

بين عقيدة “الشيخية” و “البابية” على يد مؤسسها ” علي محمد الشيرازي” الملقب بـ”الباب” و “القريّة” نسبة إلى “قرة العين”، واسمها بالفارسية “زرين تاج” بمعنى “التاج الذهبي”- و “البهائية” مشترك فكري، وكأنهن جميعا تنويع لعقيدة واحدة، فمن الشيخية جاءت البابية، ومن معطف الباب كان تبشير البابية بالبهائية التي بدأت في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر، فيما الشيخية والبابية والقرية نشطت في أربعينيات القرن التاسع عشر.
بدء انتشار هذه العقائد في أربعينيات القرن العشرين في إيران والعراق، وكان للصراع أو التوافق بين إيران وتركيا دور في انتشارها أو محاربتها ونفيها. تماما مثلما كان لتأسيس الكيان الصهيوني تسامحه مع “البهائية” التي كان مقرها الرئيسي في “حيفا” وقبر مؤسسها “بهاء الله” في عكا، فقد تم الاتفاق بين تركيا وإيران على نفي “بهاء الله” إلى “عكا” وهناك توفي، وأقيم له مقام على جبل عكا يزوره البهائيون.
تطور هذه المعتقدات، يجعلها عقيدة واحدة بتحولات زمنية، تعي محيطها السياسي والمعرفي، فتنتقل من طور إلى آخر.
تعرضت هذه العقيدة التي تؤمن بالتعدد لا بالتوحد لانشقاقات عديدة، وسرعان ما يتحول المنشق إلى نهج بذاته.
المشترك بينهم الاعتقاد بانتهاء التكليف بالصلوات الخمس، وأن الوحي غير منقطع، فقد يوحى للكامل، لا وحي تشريع بل وحي تعليم لما شرع قبل. وهذا رأي نجد أصوله لدى الصوفية، التي ترى الوحي نزولا على القلب الذي كُشف له الحجاب. ومن مأثورت الصوفية “أخبرني قلبي عن ربي”.
بل تدعو البابية والقريّة والبهائية إلى تجديد الشريعة الإسلامية، وإن اختلفوا في التقية والظهور، فالقريّة ترى أن الزمن أصبح زمان الجهر لا التقية، لهذا كانت “قرة العين” على رأس القائلين بوجوب نسخ الشريعة، وكان رأيها أن “الباب” أعظم مقاما من جميع الأنبياء الذين سبقوه، وله الحق في نسخ الأحكام الإسلامية القديمة، والإتيان بأحكام جديدة.
وترى أن الباب سيفتح البلاد ويُسخّر العباد، وستخضع له الأقاليم السبع المسكونة، وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة، حتى لا يبقى إلاَّ دين واحد، وذلك الحق هو دينه الجديد، وشرعه الحديث، وتدعو إلى سقوط الأمر والنهي والخروج من الوحدة إلى الكثر، وسقوط الحجاب بين النساء والرجال، وبأن تشاركوهن بالأعمال وتقاسموهن بالأفعال، والخروج من الخلوة إلى الجلوة. وأنّ أصل كل وزر وأساس كل بلاء ادخار المال وحرمان الغير من التمتع به، بل هو حق مشاع غير مقسوم.
وإن كان بعض البهائيين يرون أن الدعوة كانت إلى سقوط التكاليف التعبدية لا الأخلاقية، لأن الأديان جميعها تتشابه بالأخلاق.
أُعْدِم “الباب” في 9تموز من عام 1850 في تبريز، ثم اعتقلت “قرة العين” وقد كانت شديدة الميل إلى تجديد العقيدة، وبعد محاولة قتل الشاه ناصر الدين عام 1852 تعرض البابيون لمحنة القتل والتعذيب، وتم اعتقال “قرة العين” وقتلها وغيرها من البابيين، وقد وردت قصص عديدة عن طريقة مقتلها، جلها تسرد توحشا في إعدامها، منها أنهم وضعوها في فوهة مدفع… وبعد ذلك تم نفي “بهاء الله” إلى “عكا” في فلسطين، بالاتفاق بين شاه إيران وسلطان الدولة العثمانية.
فيما يتعلق بـ”بقرة العين” فإن الدكتور “علي الوردي” قد أفرد لها مساحة في كتابه الموسوعي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” – الجزء الثاني. ثم أفرد لها كتابا بعنوان “قرة العين” طُبع مستقلا عن موسوعته الاجتماعية التاريخية “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” والتي كانت مشروعا جامعا خطط لتنفيذه من عديد مجلدات، لكنه لم يطبع منه سوى خمسة مجلدات. وجميعها طبعت أول مرة في بغداد سبعينيات القرن العشرين.
“بهاء الله” مبشر العقيدة البهائية تم نفيه إلى “عكا”وفي حيفا تأسس مركز البهائية، التي عملت ملابسات السياسة صراعا وتوافقا على الالتقاء أو القطيعة مع هذه العقيدة، بدءا من الصراع والتوافق التركي الإيراني ووصولا إلى الصراع العربي الصهيوني، ففي الوقت الذي ينتهج الكيان الصهيوني سياسة الاستيطان والقضم والتمدد تدعوا البهائية إلى نقض الانتماءات الوطنية، بما يُعد تكاملا بين سياسة الاستيطان وسياسة إماتة الأوطان بنزع المشاعر الوطنية بحجة الحق المشاع للأرض”الأرض لله” لكل الناس، وما هو مشاع ومفتوح الحدود تسوره الكيانات الاستيطانية العنصرية!
فدعوة “البهائية” إلى الأرض المشاع، والملكية ملكية انتفاع تلتقي مع دعوة الصهيونية من أن فلسطين أرض بلا شعب، يعمرها المقتدر!
فالتخلي عن الانتماء الوطني يصب في مصلحة الاستيطان الصهيوني في فلسطين!
فالدعوة إلى أن الأرض للناس جميعا في وقت زراعة الاستيطان الصهيوني في فلسطين خدمت الكيان الاستيطاني العنصري، إضافة إلى وجود المركز الرئيسي في حيفا بفلسطين خلق مزواجة بين البهائية كعقيدة والسياسة الإسرائيلية.
كل من “الشيخية” التي جاء منها “البابية” و “البهائية” التي بشرت بها “البابية” تنطلق من مشترك تجديد العقيدة ونسخ الشرائع، والدعوة إلى المشترك الإنساني وعدم التملك للمال، وعدم استملاك المتع، فالمتعة حق للجميع لا استئثار فيها، وعدم تملك الأرض، ومن هنا كان توظيف عدم الانتماء الوطني، وبعضها يدعو إلى تجديد الأخلاق، وبعضها يرى الأخلاق مشتركا بين الأديان فلا تنسخ،

يقول البردوني في مذكراته “تبرج الخفايا” عن البهائية، من خلال حديثه عن تاجر إيراني فتح في صنعاء في خمسينيات القرن العشرين صيدليتين، واحدة في سوق الملح والثانية في شارع الدفعي(سوق الذهب الآن)، اسمه “الحاج عبد الله الإيراني”، وكان يبيع إلى جانب الأدوية مستلزمات طبية، وساعات وأقلام “حتى غطَّى بصيدليَّتَيْه سوق صنعاء كاملا” : “فاستشفيت أن لصاحبي الإيراني وجهة “بهائية” قبل المرحلة الأخيرة من أطوار البهائية؟ فبرغم أنها أحد فروع المذاهب الشيعية الإسلامية إلاّ أنها تختلف عن سائر مذاهب الشيعة في غياب الحس الوطني، لأن الأرض في نظرهم لله، فهي وطن كل إنسان بغض النظر عن ملَّته وجنسيته، وهذه الفكرة مرفوضة عندنا كعرب، لأن إسرائيل التي اغتصبت فلسطين بالقوة الفتَّاكة ما زالت تتسع وتمتد من 1948 إلى الآن، ولو اعتبرنا الوطن لكل وافد تحت أية راية لافتقدنا حسَّ التميز الذي يميز المُغْتصِب عن الوافد.”ص962.
كان “الحاج عبد الله الإيراني ” بعد قيام الثورة السبتمبرية كثير التنقل والسفر بين صنعاء وتعز وعدن، ولايبقى في مكان لفترة طويلة، ، يتراءى بين الظهور والخفاء، وقد تعجب البردوني من تودد الحاج عبد الله الإيراني إليه بدون سبب، ينقل له الصحف العدنية والمصرية التي تنشر خبرا عنه، وهو من نقل له خبر طباعة ديوانه الأول “من أرض بلقيس” الذي طبع ضمن المشروع الذي تبناه جمال عبد الناصر، مشروع الألف كتاب، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة… وقد أجاز طباعة الديوان “عباس محمود العقاد”
ثم يتحدث البردوني عن أحكام شيوخ “البهائية” عام 1971، وقولهم بأن القيامة قامت لأن البراكين وإضاءة البحر بأضواء البواخر أصبحت دائمة، وهذا من وجهة نظرهم من علامات انقضاء حدوث القيامة، التي منها رؤية رؤية البحر المسجور، أي المشتعل “ولكن البهائية لا يملكون أحكاما باطنية واحكاما ظاهرية، لقوة إيمانهم بعلم الله الذي يعلم السر وأخفى.”ص962.