محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (7)

محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (7)

(شبكة الطيف) كتب / محمد ناجي احمد

نوافذ الثقافة في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات:

يتحدث البردوني عن الكتب الثقافية التي كانت تصله آخر الخمسينيات وبداية عام ،1961م،عربيا، ككتاب “في ظلال القرآن” لـ”سيد قطب” وكتاب “لكي لا تحرثوا البحر” لـ”خالد محمد خالد”، وشعر علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وعن نوافذ “مؤلفات اليمانيين النازحين، مثل ديواني الزبيري الأولين، ومأساة واق الواق، الذي نهج رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ومنهج التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، والكوميديا الإلهية لدانتي.. وكانت هذه الإلمامة هي التي جعلت تأليف الرواية وقراءتها فنا مشروعا يزيد إلى رصيد الثقافة، كما يفتح زوايا أفقية لم تخطر للأديب إلاَّ عند تكنيك الدراما. ومن الغريب أننا في آخر شهر من القرن العشرين ولم يبشر أي عمل قصصي أو روائي بمستقبل أدبي بهيج، لولا صدور مجموعتين قصصيتين ، الأولى تحت عنوان “الظل العاري” لمحمد الغربي عمران، والثانية :تحت عنوان “أوتار لأوردة الغبار” لزيد صالح الفقيه” ص75.
واضح ان الخبرة النقدية للأستاذ عبد الله البردوني فيما يتعلق بالسرد في اليمن ذات انطباعات قاصرة، وهذه ليست المرة الأولى التي تكون فيه انطباعات البردوني بخصوص السرد في اليمن بهذا الضعف، فقد سبق أن ذكر في كتابه “الثقافة والثورة” أن عباس بن علي السوسوة وعبد الله أمير من كتاب القصة، وهم ليسوا كتابا مبرّزين في السرد اليمني، فأما عبد الله أمير فكتاباته وخواطره الأدبية ذات طابع شعري صوفي وليست قصصي، وأما الدكتور عباس السوسوة فهو عالم في اللسانيات ومثقف موسوعي ، لكن محاولاته القصصية لا ترقى لأن يحظى بحيز نقدي، فكيف إذا كان البردوني يشير إليه بأنه من مبدعي جيله في القصة، رغم أن محاولاته القصصية ظلت من مقتنياته الشخصية، فهو لم ينشرها في الصحافة والمجلات، وكان قد عرضها عليّ في تسعينيات القرن العشرين فنصحته بعدم نشرها، لأنها لا ترقى إبداعيا إلى مكانته كعالم في اللسانيات ومثقف موسوعي!
فعدم إلمام البردوني بالمنجز القصصي أدى إلى قصور خبرته النقدية في السرد، مما يجعلها انطباعات لا ترقى إلى معرفة متمكنة بتطور السرد في اليمني، والقفزة السردية التي أنجزها كتاب القصة في ثمانينيات القرن العشرين، ثم تَخَلُّق الرواية الجديدة مع جيل التسعينيات.
أحكام البردوني فيما يتعلق بالقصة في اليمن التي يقحم فيها أسماء مغمورة، وبعضها لا إنجاز قصصي لها سوى محاولات أو تجارب لا تترك أثرها في تاريخ السرد في اليمن يعكس وهن بضاعته في هذا الجانب.

اتحاد الأدباء وصراع الأجيال:
يشير البردوني في كتابه هذا إلى الموقف السلبي للشعراء الجدد في منتصف السبعينيات من شعره، ومن حضوره وقراءته الشعرية في الفعاليات، ومن طباعة دواوينه.
فعن ديوانه “زمان بلا نوعية” والصادر أواخر السبعينيات يقول :”وفي اليوم الثاني لاقيت محمد المساح، قال : كنت أظن أن يمنعوا ديوانك، وها هو في أيدي الناس بصنعاء!!…
قلت :لو منعوه لحببوه إلى الناس، فبيتي مفتوح للتوزيع المجاني، وتكاثر طلاب الإهداء…
أما كلمة المساح فأوضحت لي أنه من الذين حاولوا منعه بصنعاء : ما قبلوا منّا أولاد الحرام، كما قال.” ص704.
وعن الشعراء الجدد وموقفهم الإلغائي تجاهه يشير البردوني إلى أنه في فعالية شعرية بعدن عام 1976، وكانت الفعالية ضمن حضور جلسات اتحاد الأدباء ” وقامت في ذلك اليوم ثورة على البردوني، لكنها كما قال الدكتور حسن فتح الباب : مشى من فوقها ضاحكا وما كانت في أشعار غيره غير رائحة الشعر…”ص702.
طلب خمسة من الشعراء، وهم عبد الودود سيف وعبد الرحمن فخري وحسن اللوزي وعبد الله سلام وعبد الملك غازي، من عمر الجاوي ألاّ يقرأ البردوني من شعره في تلك الفعالية وإلاّ سوف يقاطعون تلك الفعالية ولن يشاركوا في إلقاء نصوصهم.
وكان عبد الودود سيف أكثرهم اشتراطا بعدم مجاورة نصوصهم إلى إنشاد البردوني في تلك الفعالية، وقد اعتذر البردوني عن الإلقاء في تلك الفعالية وقام بتقديم الشعراء في تلك الفعالية ومن ضمنهم الشعراء الخمسة أو الستة، معلقا على نصوصهم باحتفاء ونقد عند كل تقديم.
كان موقف الجاوي أن الجمهور جاء للاستماع إلى شعر البردوني، إلاّ أن البردوني التزم بوعده للجيل الجديد من الشعراء، فكانت مشاركته في فعالية أقيمت بلحج حضرها الكثير من جمهور الفعالية الأولى احتفاء وتقديرا لشعر البردوني.
يذكر البردوني بتلميح نقدي جلي مطلع قصيدة عبد الودود سيف، فيقول “وكان مطلع قصيدة عبد الودود “لماذا قتلنا البغايا؟! ص702.
وفي رأي البردوني أن من اقتاد هؤلاء الشعراء الخمسة إلى هذا الموقف هو الأستاذ عبد العزيز المقالح، فالبردوني بحسب المقالح مسح الجيل الشعري الأول من كتابه “رحلة في الشعر اليمني” وكان رد البردوني أن إبداع الشاعر لا يأتي على حساب نقض ومحو الشاعر الذي سبقه، وأن المروني والحضراني والشامي والمعلمي “ملء قلبي حبا وصوتا، وما سبق أن مسح شاعر شاعرا…غير أن المقالح لا يتخلى عن الفكرة الأولى ولو ناقضتها المعاكسات التطورية التي يتغنى بها” ص703.
يقول البردوني في كتابه هذا ” في عام 1976 أقامت الأمانة العامة لاتحاد الأدباء بعدن موسما شعريا وكنت آنذاك رئيس الاتحاد، ولكني كنت مرؤوسا لمواطني مملكتي… وفي أول أمسية نجحت عصابة الستة في إسكاتي، وإذا ألقيت أو طلب مني تقديمي للإلقاء فسوف يغادرون، بل إن الصديق عبد الودود سيف كلمني بوضوح : إذا كنت ستلقي فسوف أعتذر عن الحضور، فأكدت له أنني سأترك الأمسية، فطمأن الأخوة عبد الودود بأني تنازلت مختارا، فترك عمر الجاوي الغداء، وهو أمامه واسرع إليَّ، وأول ما نفث : تريد أن تضعني موضع سخرية الجماهير الذين لم يحضروا إلاّ ليسمعوك؟!
فقلت :يا عمر، لا بد من مخرج لكي نترك المجال للذين يحبون خلوهم به… وتوالى التساؤل من حين إلى حين، سبب تحولي من شاعر إلى مُقَدِم لم يُسمع مثل تقديمه… وبعد شهور نزلت مجموعتي السادسة (وجوه دخانية في مرايا الليل) فتلاوم الستة فيما بينهم على تلك اللعبة السخيفة نحوي.” ص747-748.
ومع وصول ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” بدأ الشعراء الستة أو الخمسة يتلاومون فيما بينهم، ويغيرون موقفهم السابق.

إن الصراع بين الأجيال الأدبية مستمر، فجيل الزبيري والشامي كان لا يقر لجيل البردوني بالشاعرية، وجيل السبعينيات كان ينفي الشاعرية ويصف بالتقليدية شعر البردوني. وحين صدر ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” و “زمان بلا نوعية” و “السفر إلى الأيام الخضر” الخ، كان شعراء السبعينيات أمام تحد شعري عابر للنوعية، في لغته التي تمزج بين الحداثة والإيقاع والتشكيل البصري، وحيوية الحوار والسرد، ورؤيته…
يعتذر البردوني عن الاستطراد لهذا الموضوع فيقول :” هذه حلقة في الثقافة على هامش سياسة ذلك الحين، وأنا آسف لاشتغالها بالذات عن الموضوع الأهم وهو الأحاديث عن الثورة التي قلنا عنها فيها ولها وعليها ما لا تعي ولا تسمع. وأظن أن هذه الأيام أحسن موقف تأمل لما يأتي أنه أفضع من الذي مضى، ولا يقلّم أظفاره إلا هتك أقنعته من هنا.” ص704-705.

إن صراع الأجيال ثقافيا في اليمن فيه قدر من الادعاء والخفة دون تباين نوعي ومغايرة ثقافية، أي دون قطيعة معرفية نوعية، وإن كان هناك تراكم كمي، مما يجعل تجاور الأزمنة الثقافية وتعايشها داخل حاضنة الركود الإبداعي وضمور الخيال مسألة متوافقة مع الارتدادات السياسية، بل في بعض هذا الصراع والبعض كثير- كان وسيلة لتداول سلطة الثقافة لا إنتاجها، أي تحويل المثقف إلى مؤسسة مهيمنة.
تداول سلطة الثقافة وأخذها من جيل إلى جيل دون سلمية في هذا التداول، وإنما بتضخم أجوف وادعاء متعالم!
ففي مزاعم القديم والجديد والأجد، وأجد الأجد، والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة تكمن هزلية سوداء، في بلد شبه إقطاعي، لم يَحدِث تحولات إنتاجية في الاقتصاد، تعطي ولو قدرا من الموضوعية تسند هذه المزاعم وحروب الغبار.
يصبح الحديث عن الجديد والأجد وأجد الأجد صورة كاريكاتورية لواقعنا السياسي والثقافي!

هناك تحولات في الأسلوب والبنية والرؤى في إبداع الجيل الذي عاش زمن الإمام يحيى، والجيل الذي نشأ في عهد الإمام أحمد، والأجيال التي خرجت من معطف ثورة 26سبتمبر1962م، لأن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية متحركة ولو ببطء، بفعل التعليم والتجارة والتلاقح الثقافي عربيا ودوليا، وبفعل ثورة المعلومات، لكن هذه التحولات لم تنجز في اليمن قطائع معرفية نوعية، بل ظل التواشج والتداخل بين الأزمنة الثقافية، كما هو الحال في السياسة التي لم تنتقل من حكم القوى الإقطاعية، بتراتبها الطبقي اجتماعيا، وإن حدث تداول ومداولة بين السيد والشيخ- لكن الانتقال إلى عصر الجماهير لم يتم، وإن ظل أملا وطموحا وأيديولوجية، فليس له من عوامل تنظيمية على أرض الواقع، فالقوى المهيمنة في المجتمع أضافت إلى طبقيتها الاجتماعية طبقية اقتصادية، وكان انتقالها سياسيا من حكم البطنين وشروط الإمامة إلى حكم أقيال 5نوفمبر 1967م تداول للهيمنة لا إزالة للفوارق الطبقية كما هو هدف ثورة 26 سبتمبر. فالجامع لإمامة السيد وجمهورية المشيخ محتوى الدولة الإسلامية، وديمومة الزمن الإقطاعي، الذي لم تنجز القوى المناوئة له تحولات صناعية تجعل الصراع بين القديم والجديد ليس مجرد ترف في الفراغ، وإنما جمهورا صنعه التجديد، وينجز ثقافيا الجديد.
بل إن تداول الهيمنة داخل بنية الطبقات المتسيدة من سادة ومشيخ وقضاة وتجار مصحوب بمجاهرة عرقية وازدراء للناس؛ كونهم غوغاء، عيال سوق، أنصار وأخفاد بلال، ليسوا من أصحاب الحسب والنسب والشرف المحتد، الذين يتحاصصون الثروة والسلطة ويحتكرونها فيما بينهم. مع فجاجة في الجهر بأوهام الاصطفاء، أبناء حسب ووضعاء، انتماء للعرق المتفوق والمصطفى من السماء، في حين أن حكم المملكة المتوكلية في عهد الإمام يحيى كانت تواري هذه الأوهام.
فبحسب عبد الله البردوني في مذكراته هذه، فإن الإمام يحيى كسلطة كانت ” تشدد على نفسها من إبداء ميولها المذهبي، حتى لا يكاد يعرف أحد مذهب الإمام يحيى، وأقول يحيى لأنه كان أفقه أنداده، لأنه بلغ درجة الاجتهاد والتأليف، إلا أنه لم يعلن مذهبيته ولا اجتهاده… وكانت هذه المواقف المحايدة تبدي الإمام يحيى عالي الدرجة في الاجتهاد والتأليف.وكانت محايدته تتبدى من خلال المثاقفة وتطارح المسائل الشرعية، ولم يَشتَم أي مثاقف من تحدثه أنه انتوى إعلان ولي عهد له، وما اتضح اتجاهه هذا إلاّ عند استعجال ابنه أحمد في شهر مقتله في شباط عام 1948…”ص53-54.