محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (8)

محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (8)

(شبكة الطيف) كتب / محمد ناجي احمد

صورة الإمامين يحيى وأحمد في “تبرج الخفايا”

لا شك أن عقيدة الإمامة الزيدية في اليمن أن حكم المنطقة العربية حق لهم، بل الأرض كلها، وفي ذلك كان ما قاله الشاعر محمد محمود الزبيري، معبرا عن معتقد الإمام أحمد في الحكم، كان صحيحا، حين قال:
وما الأرض إلاَّ لنا وحدنا
ولكنهم غالطونا بها
فقد سبق أن عبر الإمام عبد الله بن حمزة عن تصور الإمامة في الحكم حين قال:
“لا تحسبن ذمارا جُلَّ مأربتي
ولا (أزال) فتشمتني لحسادي
واذكر إذا شئت تشجيني وتطربني
كر الخيول على أطراف بغدادي”ص437-438.
يرسم البردوني صورتين مختلفتين للإمام يحيى والإمام أحمد، فيحيى عالم مجتهد، لا يلجأ إلى القتل مع خصومه مكتفيا بحبسهم، وأحمد رجل حرب وقتال، شديد الاندفاع لتصفية خصومه، ليس مثقفا ولا عالما، بل إن نباهته الشعرية محل غرابة البردوني، فلم تظهر تلك القريحة الشعرية إلاّ بعد أن أصبح إماما، في تلميح إلى أن شعره من شعر بطانته. لكن صورة الإمام أحمد في مذكرات الرئيس عبد الرحمن الإرياني وفي مذكرات الأستاذ أحمد نعمان أكثر عصرية من أبيه، وهو الشاعر الفطن، والسياسي الداهية.
يحضر يحيى في هذه المذكرات رافضا للقتل والتجسس، فحين أشار عليه “الفضيل الورتلاني بتكوين جهاز استخبارات رد عليه الإمام يحيى بالآية “ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا” وأنا يا حضرة المحترم لا أريد أن يراني الله حيث نهاني، كما روى هذا الصحفي رشيد البروي، يناير 1948م.” ص540.

يتنقل الإمام يحيى في صنعاء ويسافر إلى حمام دَمْت عام 1946م دون حماية سوى جنديين، ويقيم هناك تسعة أيام، فبحسب البردوني لم تصحب الإمام يحيى في سفرته تلك أي شكل من الحراسة، سوى أمين السر “قلالة المراهق وغير المدرب على الرماية” قاطعا نحو أربعمائة كيلو بلا حراسة.ص533-536.
في وقت كانت المعارضة الشمالية في عدن تعلن بأنها ستصدر صحيفة تحت اسم “صوت اليمن” وظلت تعلن ذلك من عام 1944، ولم تتمكن من إصدارها إلاّ عام 1947م، حين رفض الإمام يحيى التفاوض مع الإنجليز. ص537.
بل إن الاستقبال الذي لقيه ولي العهد أحمد “ذو النزعة البطولية” واستعراض القوة-في الطريق من قعطبة إلى عدن، واحتكام الشماليين إليه لحل المشاكل بينهم، فقد كان يقضي ساعتين في الصباح وأربع ساعات في المساء لحل تلك المشاكل تصالحيا، بل إن البردوني يرى أن شعبية ولي العهد عند المغتربين أقوى من المعارضة، التي اختفت أثناء زيارة ولي العهد لعدن، خوفا من أن يعتقلها!
هذا الحضور في النفوس جعل الزبيري يعبر عن ذلك بعد مقتل الإمام يحيى:
يعجب الموت أنه لم يمت
ولم ينج من أذاه الأنامُ
وزعت روحه على الأرض يرتاع
اليمانون منه حيث أقاموا
فإذا بالحياة شنعاء فيها
كل شخص وكل شيء إمام.
هذه الجو النفسي الذي سيطر على الزبيري مما لاقاه في “مُصوَّع” وأديس ابابا” “وكان يستغرب من بكاء الجموع اليمنية إذا ذكر الإمام الشهيد”ص339.

تعرض الإمام يحيى لأول محاولة اغتيال في يوم الجمعة من شهر شباط 1948م، “قيل إن عساكر الإمام يحيى قبضوا على محمد القردعي واعترف أن عبد الله بن أحمد الوزير هو الذي كلفه بقتل الإمام، وأعطاه المسدس الذي أهداه إليه الإيطالي (ماسبوري) بمعرفة الإمام يحيى، وقيل إن سبب إخفاق القردعي هو زحام الناس حول عربة الإمام يحيى يوم الجمعة، وأضافت بعض الأخبار، أن الوزير دفع للقردعي ثلاثمائة ريال “ماري تريزا” وتوقع المحيطون بالأحداث أن الإمام سيبطش بالوزير، إلاَّ أنه استهول ما سيترتب على هذا فاضطر إلى استدعاء ابنه الأمير أحمد، أمير تعز، فهو أقدر على مواجهة ما ينجم من الكوارث نظرا إلى صيته المدوي في أكثر من حادثة حربية…” ص525.
محمد القردعي هو أخو الشيخ علي ناصر القردعي، وقد أعدم في سجن حجة، في حين حاصر الجنود الشيخ علي ناصر القردعي لأيام في خولان وانتهى الحصار بقتله في تلك المواجهة.
فاغتيال الإمام يحيى لم ينجح إلاّ بتخطيط تم في بيت عبد الله بن علي الوزير زوج ابنته تقية، ومراقبة ومتابعة لتحركات الإمام قام به أحمد الشامي، وشراكة من بعض الجيش الذي إئتمر بكبير المعلمين جمال جميل، الذي تعاون فيها مع الخمسة المشايخ الذين نفذوا اغتيال الإمام في كمين بـ”حزيز” جنوب صنعاء، في 17شباط ، 1948، أدى إلى مقتل الإمام يحيى ورئيس وزرائه عبد اللله حسين العمري، وأحد أحفاد الإمام والسائق. وإن كان البردوني في كتابه هذا يؤرخ لهذا الحدث بـ”18شباط 1948م”!
يتحدث البردوني عن قتلة الإمام يحيى، علي ناصر القردعي ومحمد ناصر القردعي، ومحسن هارون، وآل الحسيني وآل سنهوب ومحمد ريحان وعلي العتمي فيقول :” خمسة من الشيوخ الذين لم يمثلوا عشائرهم، مثل الأخوين القردعيين وآل هارون في بني الحارث، وآل الحسيني في بني حشيش وآل أبو راس في ذو محمد وذو حسين، وبعد قتل الشيوخ الخمسة وقائد السيارة محمد ريحان تبدى الجيش مبتعدا عن الثورة وقادتها الساسة والتجمع المشيخي”ص706-707.
يرى البردوني أن اغتيال الإمام يحيى كان سقوطا للبيت اليحيوي والوزيري في آن “لم يفطن أحد البيتين أن سقوط أحدهما سوف يسبب في سقوط البيت الثاني، لأن هذا من عوائد صراع البيوت، يحكم هذا حتى يسترخي فيحل محله الآخر، حتى يبلغ استرخاء سابقه، في غياب نظام عسكري وتنظيمي يضعان الشعب مكان البيتين” ص45.
ما قاله البردوني عن سقوط البيتين ينطبق تماما على الصراع بين الرئيس علي عبد الله صالح وبين عائلة الشيخ عبدالله بن حسين الحمر، ابتداء من تصريحات الأب عبد الله الأحمر عن انتخاب الضرورة لـ”الجني الذي تعرفه” وأنه “أفضل من الإنسي الذي لا تعرفه” مرورا بانتخابات 2006، ووصولا إلى 11فبراير،و استنهاض الشارع وآلام الناس وظروفهم الموضوعية التي تأمل بثورة، فكان “رؤوس الثعابين” هو التنظيم الذي يستقوي بتلك الآلام لإسقاط ما سمي وقتها بالتوريث..

ينفي البردوني في كتابه هذا، كما في كتب أخرى له- أن يكون الإمام يحيى قد عين الأمير أحمد وليا للعهد، ويرى أن تولي أحمد للإمامة كان نتيجة حركة شباط ومقتل والده.
لكن تولية الإمام يحيى لأولاده السيوف نوابا له في الألوية ووزراء، وإبعاده لشركائه في السلطة كعبد الله الوزير وعلي الوزير، من وجهة نظري كان انتقالا للسلطة من مبدأ الإمامة إلى توريث ملك!
لقد كان العنف في اليمن، واستخدام الكمائن والاغتيالات مقدمة الحرب في اليمن عام 1948، ثم في حركة مارس 1955م، فمنه تخمرت فكرة “الدولة الإسلامية” “وفي تلك الفترة اختمرت فكرة الدولة الإسلامية، وذلك لكثرة الإسلاميين العسكريين الوافدين إلى اليمن، الذين تمكنوا من كثرة أرسال أسلحة ومقاتلين إلى بني سويف، وما كشف هذا الأمر إلاَّ كتاب سيد قطب عام 1966 “معالم في الطريق” ص556.
لقد نسخ “الفضيل الورتلاني” دستورا لحركة 17فبراير 1948 من دستور الإخوان المسلمين بمصر، يقول البردوني “وبعد التعارف وتبادل الثقة والاحترام أعطاهم دستورا مكتوبا ملخصا من دستور الإخوان المسلمين بمصر، فقرأوه واستحسنوا ما فيه، وكل ما فيه تنظير للحكم الإسلامي كما كان قائما في اليمن بصرامة، إذ كانت المساجد عامرة وكل الملاهي معدومة، والحجاب وراثي بلا دعوة إلاّ في الأرياف، حيث كان السفور وراثيا بحكم الأعمال المتصلة طوال العام، والتي تستدعي اشتراك النساء والرجال في الحصاد…” ص605.
وقد وقع على الدستور الكثيرون كأحمد الجرافي وحسين عبد القادر، وعلي عبد الله الوزير، وعبد الله أحمد الوزير، ومن أبناء الإمام الموقعين على هذا الدستور ثلاثة : الحسين والمحسن وعلي. لم يشر الدستور إلى ضرورة قتل الإمام أو طلب التنازل منه لعجزه، “إذ لم تُلمِح إشارة في الدستور إلى التخلص من الإمام يحيى، ولا داعي إلى التنازل لعجزه.” ص606.
لكن مجريات وحقائق الصراع على الحكم أسفرت بقتل الإمام يحيى بدفع من الفضيل الورتلاني، الذي استطاع إقناع عبد الله الوزير بإصدار فتوى وأمر بقتل الإمام.
فبحسب ما يذهب إليه الأستاذ محمد محمود الزبيري في رسائله، فإنه حمّل الورتلاني وزر المآلات التي تعرض لها الأحرار من قتل وتشريد، فقتل الإمام يحيى لم يكن خيارا للمعارضة التي كانت تقيم في عدن. وبحسب البردوني في “تبرج الخفايا” فإنه يعلق على ذلك الحدث بقوله “من هنا أسفرت الحقائق المقلقة تحت انتظار النتائج التي عكست مقدماتها، ففي 18شباط 1948، تولى خمسة من أوساط شيوخ القبائل مقتل الإمام يحيى عن أمر عبد الله الوزير شخصيا، وعلى حُكم شرعي من محمد الوزير حاكم المقام اليحيوي، فجاء هذا الحادث معاكسا وجهة الدستور وموقعيه، لأنه حدث من خلف ظهور المعارضة بعدن وجماعة العلماء “بصنعاء”” ص606.
وقد كان للجيش بقيادة كبير المعلمين جمال جميل دوره في دعم تنفيذ مهمة المشايخ، بتوفير سيارة لنقل المشايخ ومدفع رشاش…
وكان لاستعدادات الأمير أحمد وجاهزيته لتولية السلطة بعد أبيه أن بث أعوانا له يوافونه بتحركات المعارضين لأبيه، بل حتى في مقام (عبد الله الوزير) وتلك كانت من أسباب سقوط حركة 17فبراير 1948م.
“قال علي بن غالب الصنعاني :كان أعوان (أحمد) من يوم قتل أبيه شبه متنكرين، وكان أكثرهم غير معروف.
أضاف علي بن غالب: كان من أعوانه المعروفين عبد الله الحزيزي في سوق النظارة، وعبد الرحمن الرباعي في الطَّوَاشِي، ونائب أمير جيش الدفاع النقيب معصار” ص887.
وكان للأمير أحمد أعوان من النساء، من قبل سنة من قيام حركة شباط 1948، وفي كل لواء سواء في ذمار أو تعز أو الحديدة أو حجة أو صعدة أو صنعاء أعوان يرسلون له بالأخبار، لهذا فشلت خطة اغتياله في تعز، لأن بعض من كلفوا بالقيام بالمهمة أبلغوه بذلك، مما جعله يأخذ احتياطاته، ويتنكر بملابس جندي مستقلا عربة نقل الجنود، ليصل إلى الحديدة التي تواطأ عاملها الحلالي معه، رغم تظاهره بأنه مع عبد الله الوزير، وفي تعز كان لمحمد بن أحمد باشا دوره في التواطؤ مع الأمير أحمد، رغم أنه كان من المكلفين مع مشايخ مثل الشائف وغيره لاغتيال الأمير أحمد، لكنهم فيما يبدو كانوا عينا له لا عليه. وفي ذمار كان (عمار) حسين الروضي من عيون الأمير، الذي قال :”اسمعوا كان من أعوان (أحمد) قبل سنة نسوان يلبسن في صنعاء ستائر، وفي القرى مصاون، وقائدتهن (عونية الحماطي) تمتلك ألف رأس غنم إلى جانب مزارعها في الرونة، كن هؤلاء يحملن الرسائل إلى صغار الشيوخ، وإلى عُكْفَة الإمام في همدان وبني مطر وبني الحارث والحيمتين. وكان آل السياغي أصحاب الحَيْمَة من أنصار أحمد المجاهرين لكونهم فقهاء.” ص887.
وقد اعتمد الأمير أحمد على صغار المشايخ، وكان حذرا من كبار المشايخ، بل إنه رفض في حجة أن يستقبل ناصر مبخوت شيخ مشايخ حاشد، والصوفي شيخ مشايخ خولان، وأبو حليقة شيخ مشايخ سنحان، والنقيب متّاش .
وسبب عدم استقبال الأمير أحمد لكبار المشايخ هو معرفته بأن “رؤساء العشائر المحاربة كانت ترتزق من الحرب التي شبت بين الإمام يحيى بعد دخوله صنعاء، وبين محمد علي الإدريسي أمير صبيا، وقد روي ان المحاربين العشائريين كانوا يرددون مقولة اشتهرت في ما بعد عن المحاربين :”الله يحفظ الإمام إلى نصفه، والإدريسي إلى نصفه” ص890.
وربما علم من عيونه في صنعاء أنهم استلموا مبالغ مبالية من “عبد الله بن أحمد الوزير”
التي أرسلها لهم عن طريق “علي الشماحي، وحسين الزهيري، وكانت ثلاث خيشات من أبو ألف ريال، ورسالة شفوية من عبد الله الوزير يقول لهم فيها “اعملوا ما ترون ونحن هنا لما يلزم” ص888.
فالعلاقة بين مشايخ القبائل والأئمة تقوم على المصلحة والنهب “يقول الإمام المنصور محمد بن يحيى : كيف أصدق إيمان هؤلاء؟
تأمرهم ألاّ ينهبوا غير المجلوب إلى الأتراك فينهبون جلوبتنا ثم ينقسمون فيلجا بعضهم إلى أحمد فيضي، ويصل إلينا البعض متذمرا من أصحابه، فنتخذ منهم رسلا لاسترجاع اللاجئين منهم إلى الوالي” ص891.
تلك هي سمات البداوة التي درس خصائصها وسماتها الدكتور “علي الوردي” في كتابه الموسوعي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” في أجزائه الخمسة، وهي سمات كان الأستاذ أحمد محمد نعمان قد أشار إليها حين تطرق في مذكراته إلى القبائل في ليبيا، التي تشبه قبائل اليمن في نهبها ووهبها، لكن الوردي درسها كعقل بدوي أيا كانت جغرافيته.
يقول البردوني معلقا على ما سبق، ومتأملا في الحاضر والمستقبل ” وإذا كان الماضي يفسر الحاضر، فإن حاضر الستينيات فسَّر غابر الثلاثينيات، إذ كانت تنقسم البيوت الكبرى من العشائر إلى فريقين، هذا يجمهر، وذاك يميلك، مدة سبع سنوات.”ض891.
كانت القبائل تردد : اللهم انصر الملكية للنص والجمهورية للنص. فذلك يجعل الحرب مغنم يربخونه من كل الأطراف.من هنا كان الاتفاق بين القبائل المجمهرة والقبائل المميلكة أن دم القبيلي على القبيلي حرام.
ولعلّ حرب السنوات السبع التي نعيشها في أيامنا هذه ما يطابق ويعيد مهازل التاريخ وسوداويته، من طباع وعادات وسمات بداوة نهّابة وهابة، فشيوخ العشائر تتغير بوصلتهم بحسب وجهة مصالحهم وغنائمهم، لهذا يتنقلون من ضفة إلى أخرى، بثبات مع المصلحة وتحولات في المواقف، تتغير في سيولة وجريان، مما يجعلها المتحول، والمصلحة هي الثابت الذي لا تتبدل في الطباع والأحوال.