محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (9)

محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (9)

(شبكة الطيف) كتب/ محمد ناجي احمد

استكمالا للحلقة السابقة، مما ذكره البردوني عن اندفاع الإمام أحمد العنيف تجاه تصفية خصومه، وخوفهم من صورة “المقاتل” وصورة “البطل” التي أصبحت رأس مال تراكم للإمام أحمد بفعل خوضه للعديد من الحروب، في حاشد وبكيل وحجة وحربه مع الزرانيق الخ، فتلك الرمزية التي امتزجت بالأساطير وقهر الجن، جعلت المشايخ الذين دخلوا صنعاء مزوملين :
إمامنا الناصر ومن بعده حميد
سبحان من رد العوايد لاهلها
واستغلوا ضعف محمد البدر، آخذين منه الكثير من الأموال-أن يتسلقوا سور صنعاء بعد أن سمعوا بعودة الإمام أحمد وخطابه التهديدي في الحديدة. فما أن عرف الإمام أحمد بذلك وهو في روما عام 1959 إلاَّ وعاد إلى الحديدة، وهناك ألقى خطابه القتالي، ومما جاء في ذلك الخطاب، ينقل لنا الأستاذ عبد الله البردوني منه قوله :”يا ابناء وطني، وأمة اليمن الكبير.. لقد رحلنا للاستشفاء فأمدّّ الله بما طلبنا، وفي غيابنا حدث التنكر للمعروف، وضياع القَبْيَلَة، فقد أرادوها سلطنات على طريقة نظام الإنجليز في الجنوب، وسعى بعضهم إلى الاتحاد مع السلاطين، وما أنزل الله من سلطان في هذا، والآن سنتفاهم بالحسنى، ومن أمال رأسه شمالا أملناه إلى اليمين، ومن خرج عن الطاعة ورأي الجماعة فسوف (أشْدَخ” رأسه بالسيف، وإنني أتحداهم أن يبيتوا بصنعاء :
ألا يا خابط العشوا رويدا
تنكَّب سوف يقطُرُك الزحامُ
وأمر برقيا أن تبيت أبواب صنعاء مفتوحة، فما أصبح فيها شيخ من الذين استدعاهم (البدر) أو (حميد بن ناصر) وأصبح هروبهم جميعا حديث صنعاء للناس، وإخبارها عن السائل : ماذا سأل؟” ص190-191.

هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
سبق أن وصف البردوني دستور 17فبراير1948 بأنه مستنسخ من دستور جماعة الإخوان المسلمين بمصر، لخصه لهم الفضيل الورتلاني، واعطاه لهم ليوقعوا عليه، وكان محل إجماع بيت الوزير ووقع عليه أربعه من أبناء الإمام يحيى،هم: علي والحسين والمحسن وإبراهيم، والعديد من العلماء ورجالات حزب الأحرار، والسبب أن ذلك الدستور لم يأت بجديد، فقد كان مطبقا في اليمن اليحيوي. بل إن اليمن المتوكلي في عهد الإمام أحمد أواخر الخمسينيات شكل “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وأظهرت الهيئة مهابتها بعقاب بعض أبناء البيوت الراقية على تعاطي الخمر ولعلها بدأت بالأقوياء لتلوح أقوى” ص711.
كانت اللجنة مشكلة من عبد الرحمن الشامي رئيسا، وعبد الله الحجري-وزير المواصلات-عضوا، و يحيى النهاري-صديق الأمراء والسيوف عضوا وليس في الثلاثة من تميز بالعلم والمشيخة العلمية.
فأما عبد الرحمن الشامي فهو لم يتجاوز تعليمه الشعبة الأولى من دار العلوم، ويدنو منه أو يساويه عبدالله الحجري، الذي كان حاكما في لواء (إب) ثم ارتقى إلى وزير عام 56م “كان يقول العلامة المثقف محمد يحيى الذاري : ليس للحجري أي مؤهل إلاَّ الوقاحة، وقوله (لا) حيث تجب قولة(نعم).”ص711. وكذلك يحيى النهاري تم اختياره عضوا في الهيئة لما يقوم به من “خدمات خاصة لبعض السيوف وبالأخص الوزراء منهم” ويوم مقتل (الإمام يحيى) “كان أول من أبرق للأمير أحمد بتعز بالحدث الجلل في أول لحظاته” ص721.
“وكان للحجري صديق مخلص من أشهر صانعي الخمر وبائعيه، فكان موضع التساؤل، فهل مَنَعَ الخمر وعاقب عليه لكي يخلي السوق لصديقه (العاظي) البياع الصغير في باب السَّبَحْ؟ وكان امثال هذا يعرف المستهلكين ومواقيت تساقيهم، فدل على أناس، إلاَّ أن الهيئة ارتأت أن تلحق التعزير الجماهيري بأبناء بيوت من الطبقة الوسطى والعليا لكي يصدع الأمر” ص713.
بعد أن تم عزل عبد الله الحجري حاكما في لواء (إب) ظل الناس يحتكمون إليه قاضيا بالتراضي، تاركين الحاكم المعين، ويعلل البردوني ذلك بقوله ” لكن هناك ناحية امتاز بها( الحجري) بلا فكر، وكفى أنه متين العلاقة بالوجهاء من الفلاحين لأنه من أصحاب الحقول والحرث.”ص711.

مناهضة البردوني للقب (القاضي):
يرى البردوني في كتابه هذا أن لقب “القاضي” لقب طبقي “قيمة تشريفية توازي لقب السيد” أي انه يحيل إلى طبقية اجتماعية وليس فقط المهنة، فالأسر والعائلات والبيوتات تتوارث لقب القاضي في أبنائها كما يتوارث السادة لقب “السيد” ولهذا طالب البردوني في أواخر سبعينيات القرن العشرين – بإلغاء لقب القاضي “مالم يمتهن القضاء لأنه لقب مهني” أسوة بإلغاء لقب السيد، فكلاهما يحيلان إلى تراتبية اجتماعية وطبقية “ويبدو أن الكلمة سُمِعت وطُبِّقَت في أول نشرات المساء من إذاعة صنعاء، وكان أول من أنكر واحتج عبد الكريم العرشي- نائب رئيس الجمهورية إذ ذاك- اقتداء بالقاضي عبد الرحمن الإرياني، وما هذا موقف اقتداء، لأن إلغاء ثمرة التخلف أهدى إلى اقتلاع جذوره…”ص729.

العدوان الخارجي وتنامي الحس الوطني:

باعتقادي أن تاريخ الوطنية اليمنية يمتد كوعي بالذات اليمنية إزاء الخارج المعتدي إلى خمسمائة عام، أي منذ القرن السادس عشر، حين ثار الإمام شرف الدين وابنه الأمير مطهر شرف الدين في مواجهة الاحتلال العثماني لليمن.
يرى الإخوان المسلمون في اليمن أن صراع الإمام شرف الدين ثم الإمام القاسم ضد الدولة العثمانية صراع بين الكهنوت الإمامي، “الوافد” لليمن والدولة الإسلامية العادلة، لهذا يطلقون عليها صفة “عدالة آل عثمان” و “الفتح العثماني لليمن” مع ملاحظة أن مصطلح “فتح” ليس بريئا من محمولات الاحتلال الخارجي بل يشمله.
على النقيض من رؤية وموقف الإخوان المسلمين إزاء مقاومة شرف الدين والقاسم للأتراك، يرى البردوني في كتابه “تبرج الخفايا” أن حرب آل شرف الدين والقاسم بن محمد ضد العثمانيين كانت حرب تحرير تحت الراية الوطنية ” ولم يجرب الحكم أحد من آل شرف الدين بعد الإمام شمس الدين ابن شرف الدين ، فكان القاسم بن محمد أسرع إليها تحت الراية الوطنية التي خاض اليمن تحتها حرب التحرير من العثمانيين.” ص441.
في إشارته إلى الفرق بين الحميريين والفراعنة، أي مقارنة بين اليمنيين والمصريين، بقدر ما تحيل إلى المغايرة فإنها تشير إلى المشترك الذي يجمع حضارة مصر بعمران اليمن،، وبالتالي من وجهة نظري إلى العلاقة بين الوطنية المصرية والوطنية اليمنية، بما هي في مبتدئها إحساس بالذاتية، ثم مسار سياسي نحو الاستقلال عن الحكم الأجنبي. يقول البردوني ” فالفرق بين الحميريين والفراعنة يشبه الفرق بين سد مأرب ونهر النيل” ص512.
ولو كان قال كالفرق بين الزراعة المطرية والزراعة النهرية لكان أوضح وأجلى، فالنهر جار وفيضانه في مواسم دون مواسم، وكذلك المطر منهمر في مواسمه، فالمقارنة بين النهر السد تتضمن الإحالة إلى الحجم، لا إلى التنوع والتشابه الذي يتضمن المغايرة.

إن الخطاب الإعلامي والسياسي للإخوان المسلمين في اليمن الذي يوجه الصراع في توصيفاته ومصطلحاته ضدا لما يسمونه “الكهنوت الإمامي” و “الفارسي” يندرج ضمن مسار وتوجه الإقليم والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة في التنقيب عن أسباب حرب من أعماق الصراع المذهبي والشعوبي بين العرب وإيران. يقول البردوني “كما نلاحظ مسألة اليوم التي تنقب عن أسباب حرب بين العرب وإيران لكي تطفئ حربا دائمة بين العرب وإسرائيل، ولا يمكن أن يقوم ذاك إلاَّ بهذا، لخلق مشروعية تدخل القوى العسكرية ومعامل الأسلحة، فسبب الأسباب هي التجارة” ص528.

لقد كان رفض الضيم والظلم من اليمني أدعى للخروج والثورة فكيف إذا كان الظلم صادرا من سلطان أجنبي، احتل الأرض وفرض الضرائب التي زادت من جوع الناس، ومن توجع وثار خلسوا جلده، مستخدمين كل وسائل التعذيب التي عرفتها الامبراطوريات الغاشمة، وليس الخازوق إلاَّ إحداها، وانتزاع الرهائن المثلثة إلا من وسائلها لدى العثمانيين.
يورد “البردوني ” رسالة للإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين إلى (الأستانة ) حين عانت اليمن من الإجداب، وخاصة “ريمة” و”وصاب”، ويطالب فيها السلطان العثماني بالعفو هذا العام والذي قبله عن ضريبة (الجهادية) “فالأوجب جهاد الجوع من قتال اليهود والشيوع” ص870؛ أي الشيوعية…
لقد كانت الرسائل المتبادلة بين شرف الدين والمطهر والقاسم ومحمد بن القاسم ثم محمد بن يحيى ويحيى حميد الدين وبين الدولة العثمانية تحتوي على تلك الذاتية اليمنية المعبرة عن رفض اليمني للظلم إن صدر من اليمني ضد اليمني فكيف لو كانت صادرة من حاكم أجنبي!.

تمردات عام 1919م، وما بعدها:
مع هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وانسحابهم من اليمن في نوفمبر 1918م دخل الإمام يحيى إلى صنعاء، ثم تحركت جيوشه نحو توحيد الألوية التي كانت تحت حكم العثمانيين، صنعاء وذمار وتعز والحديدة والبيضاء ومأرب… وأخذت حروب التوحيد لتكوين اليمن أكثر من عشر سنوات.
ففي تعز طمح المشايخ الذين عملوا قائم مقامات على النواحي والأقضية أن يستقل كل واحد منهم بناحيته وقضائه، ثم اجتمعوا في مؤتمر العماقي بالجَنَد بحوبان تعز، وفي رأس كل واحد منهم طموح أن يكون حاكما للواء تعز. فكان التنافس بين محمد ناصر ماوية، قائم مقام ماوية، وعبد الوهاب نعمان قائم مقام الحجرية، وعلي عثمان قائم مقام المخا، والشيخ حسان قائم مقام جبل حبشي، ومشايخ من حبيش والعدين الخ، وبسبب التنافس والمشروع الضيق الذي لا يتسع لأبعد من حكم لواء تعز كان مشروع التوحيد الذي تحرك الإمام يحيى تحت رايته هو الأقوى، فنفذ الإمام من خلال استثمار ضيق مصالح المشايخ، واعدا إياهم بالإبقاء على مصالحهم ونفوذهم كما هو دون تغيير، فاطمأنوا وسلموا.
ومع عام 1922 حين بدأت المملكة المتوكلية بتعيين عمال وحكام وكتاب للحسابات على النواحي، وجد المشايخ أنفسهم دون سلطة فاجتمع في دار أحمد الباشا، كل من الشيخ عبد الوهاب نعمان والشيخ حمود عبد الرب والشيخ أحمد بن حسن باشا وعبد الملك حسن بشر، وعبد الله يحيى عبد الجليل والجنيد عبد الله النور، وكتب اتفاق وخطة التمرد المساوى، ووضعوا خطتهم لقتل نائب الإمام علي الوزير، والاستقلال بتعز، وفي سياق ذلك كان تواصل الشيخ عبد الوهاب نعمان مع سلطان لحج والانجليز بعدن علّهم يدعمون تعز سلطنة مستقلة، لكن المشروع سقط لعديد أسباب من بينها الخيانة التي قام بها بعض من شاركوا في ذلك المخطط وكذلك رفض بريطانيا أن تشمل تعز الحماية وتعترف بها سلطنة مستقلة عن المملكة المتوكلية، فليس في ذلك ربح لها.
أخطأ البردوني حين أرخ تمرد مشايخ لواء تعز بأنه في ثلاثينيات القرن العشرين، والصحيح أنه كان عام 1922م. ويبدو أن الخطأ مصدره التباس تمرد 1922م بالحركة التي قادها الفقيه حميد الدين الخزفيار في المقاطرة عام 1928، وكان المضمون الاجتماعي لحركة الخزفيار هو رفض الظلم المتوكلي بمحتوى وتصور اجتماعي للأرض ومنفعتها الجماعية، لكن قصورها في مشروعها السياسي.
يقول البردوني في كتابه هذا “وكان أول تمرد وصف بالآمر في أواخر الثلاثينيات بالمقاطرة، وبعد استسلامها بعزل الشيخ عبد الوهاب نعمان وسجنه بصنعاء سقطت عن (نعمان) التهمة عن تآمره مع سلاطين الجنوب يوم ذاك” ص706.
التبس هذا الموضوع على المملى عليه فالتآمر كان عام 1922م، وبعد أن وضع الشيخ عبد الوهاب في الإقامة الجبرية بصنعاء، تم تعيينه عاملا على إحدى نواحيها، ثم قامت حركة 17فبراير 1948 وكان الشيخ عبد الوهاب من المشتركين فيها، وفي سجن حجه يذكر الأستاذ أحمد محمد الشامي في كتابه “رياح التغيير في اليمن” أنه سأل عبد الوهاب نعمان عن تواصله مع سلاطين لحج و الاستعمار البريطاني في عدن في تمرد 1922 فأقسم له منكرا حدوث ذلك التواصل، وقد نقل أحمد الشامي حواره مع الشيخ عبد الوهاب وقسمه باليمين، فما كان من الإمام أحمد إلا أن أخرج للشامي وثيقة ورسائل تؤكد تواصل الشيخ عبد الوهاب نعمان بالسلاطين والإنجليز بعدن بغرض جعل لواء تعز تحت الحماية البريطانية.

إن توصيف التمردات التي حدثت في تعز والبيضاء ومأرب والزرانيق وحاشد وبكيل بأنها ثورات، فيه قصور أفق وفقر للتصورات السياسية، فتلك التمردات كانت على ديدنها في رفض الخضوع لأي سلطة كانت، سواء في عهد الأتراك أو عهد الإمام يحيى، ووصفها بالثورات ينم عن تصحر في الوعي وضلالة في الرؤيا والموقف.
إنني أرى في قول عمر الجاوي في محاضرة له ألقاها في موسكو أواخر الستينيات، رواها “سلطان أحمد زيد” في كتابه “محطات من تاريخ حركة اليسارفي اليمن” بأنه مع الوحدة اليمنية ولو حققها الإمام، خطاب وموقف يعي أن القيمة العليا للوحدة اليمنية لا يتم التنازل عنها بحجة رجعية النظام واستبداديته، فالنضال الوحدوي والنضال التحرري والنضال الاجتماعي في جدل تكاملي لا إقصائي، بمعنى أن الوحدة تصبح أرضية للتحرر الاجتماعي، تماما كما أن حرية الأوطان من المستعمر تؤدي إلى وحدة الأوطان، وسعيها لإنجاز مشروعها الاجتماعي.
صحيح أن عمر الجاوي في منتصف سبعينيات القرن العشرين أصبح يدعو إلى وحدة الاتحادات والقوى السياسية لإنجاز الوحدة السياسية، كون حرب 1972م عكست رغبة كل من حكام الجمهورية العربية اليمنية وحكام جمهورية اليمني الديمقراطية الشعبية تحقيق الوحدة بالقوة كل وفق تصوره، فكان الحديث عن وحدة القوى الشعبية تميزا عن تلك الثنائية التي ترى الوحدة إما ضما وإلحاقا بتصور جمهورية 5نوفمبر أو وفق تصور التنظيم السياسي الموحد عن وحدة القوى الديمقراطية.