محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (10)

محمد ناجي احمد يكتب : عبد الله البردوني وشذرات من “تبرج الخفايا” (10)

(شبكة الطيف) كتب / محمد ناجي احمد

محطات التغيير نحو 26سبتمبر

بعد استكمال تكوين المملكة المتوكلية اليمنية بضم مأرب والبيضاء، وحسم المعارك مع التمردات التي نشبت هنا وهناك، جاءت حرب 1933-1934 مع عبد العزيز بن سعود وسياسته التوسعية على حساب نجران وعسير، وكان الصراعات داخل الأسرة الإدريسية منذ عام 1923م مدخلا لاقتناص عبد العزيز لتلك التناقضات، واهتبالها بعقد اتفاقية حماية مع حسن الإدريسي عام 1926م، سرعان ما تحولت إلى سيطرة مطلقة على منطقة عسير وعاصمتها صبيا.
لم يقف الإمام يحيى صامتا تجاه سياسة القضم المستمرة التي ينتهجها عبد العزيز بن سعود، فنشبت الحرب بينهما، لكن الإمام يحيى أدار الحرب الدفاعية بموازين أخلاقية وحسن النوايا، لا بموازين قوانين الحروب، والتمسك بالحق الطبيعي والتاريخي. فحين سجل الأمير أحمد انتصارا في نجران على خصمه الأمير سعود واستولى على معسكره، كانت جبهة الحديدة التي يقودها سيف الإسلام عبد الله كعب أخيل الصراع، فقد ارتاع عبد الله من قوة التسليح التي يمتلكها الأمير فيصل بن عبد العزيز، من سيارات وأسلحة متوسطة وثقيلة، دعمته بها شركات النفط في الولايات المتحدة الأمريكية، فعمل سيف الإسلام عبد الله على إقناع أبيه بالاستسلام، وسحب الجيش دون مواجهة، وهو ما أدى إلى وصول الأمير فيصل بقواته إلى الحديدة!
من تلك الهزيمة التي ترتب عليها نصرا سياسيا جسدته اتفاقية الطائف، لصالح عبد العزيز بن سعود، تم ضم الأراضي في المخلاف السليماني لصالح السعودية، على أن يتم إعادة النظر في هذه الاتفاقية بعد عشرين عاما، لكن العقود التي تلت أثبتت أن تلك المدة وضعت من أجل أن تستمر السعودية في جعل اليمن تتدحرج من ضعف إلى ضعف أكثر، وبالتالي المزيد من القضم والهضم للأراضي اليمنية، التي لم تكتفي باتفاقية جدة عام 2000 أن جعلت اتفاقية الطائف نهاية، بل وأضافت إلى ذلك تحريك أكثر لنقاط الحدود نحو الداخل اليمني، وصولا في هذه الحرب الأخيرة لأن يكون البحر العربي منفذا سعوديا!
وعن اتفاقية الطائف فإن صيغتها الأصلية تم إخفاء وثائقها بحسب البردوني، والترويج إلى بنود ومحتوى يختلف عن صيغتها الحقيقية…

من رحم تلك الهزيمة عام 1933-1934 اجتمع شركاء الإمام يحيى من بيت الوزير وبيت شرف الدين وكذلك من أبنائه في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين لمناقشة ولاية العهد؛ أي من يخلف الإمام يحيى، ثم كانت الحركة الإصلاحية من المحلوي والعزب والمطاع والوريث الخ، وصولا إلى حزب الأحرار في عدن منتصف أربعينيات القرن العشرين، والذي تمخض عنها المطالبة بمَلَكِيَّة دستورية، فكانت حركة 1948م، التي قُتِل فيها الإمام يحيى، ثم فشلها خلال ثلاثة أسابيع، وما ترتب عليها من إعدامات للبعض وسجن لسنوات للبعض الآخر.
وهي الحركة التي وقف فيها أحمد الثلايا مع الأمير أحمد حين كان قائدا لمفرزة في صعدة، وقد أخبر الثلايا الأمير أحمد أنه قبل أن يترك مفرزته رأى من اللياقة أن يسلم على كبير آل مناع في صعدة، فوجد داره مليئة بالضيوف، ولا حظ ان عنده تجمعات، من خولان وفدوا إليه؛ أي وفود المشايخ التي انحازت لإمام حركة 1948، وقد غطى الثلايا تحركه إلى حجة بأنه سوف يقصد صنعاء ويسأل الجيش هناك عن موقفه.
قال الثلايا: واتجهت إليكم، ومن حينه أرسل(أي الأمير أحمد) مفرزتي إلى أخيه (عباس) بمنطقة السر. ص889.

انقلاب مارس عام 1955:
كان الاتفاق بين سيف الإسلام عبد الله والمقدم أحمد الثلايا على إزاحة الإمام أحمد وتولية عبد الله يسير بترتيباته السرية ، لكن حادثة إحراق الجنود في “العرضي” لمزارع وحَطَبْ الرعية في قرى الحوبان من ضواحي تعز، وما ترتب على ذلك الاشتباك بين الجنود والرعية من قتيل وإحراق للمزارع، جعل الرعية يشكون إلى الإمام أحمد، فطالب الإمام من المقدم الثلايا تسليم الجنود الذين تعرضوا للرعية، لكن العصبية بين الجنود جعلتهم يتمردون ويرفضون تسليم زملائهم، وقاموا بالرمي على قصر الإمام، فما كان من الثلايا وسيف الإسلام عبد الله إلى أن أعلنوا عن مخططهم بالانقلاب على الإمام أحمد ومطالبته بالتنازل عن الحكم لأخيه عبد الله، فكانت تلك الصيغة من التنازل التي توحي بأن الإمام تنازل عن مهام تسيير الحكم لا عن الإمامة، وظل أحمد يتماوت ويشعر خصومه المحاصرين له بأنه في حالة مرض شديد واستسلام، لكنه كان كالليث في حركته وتواصله مع الجيش في قلعة القاهرة، وصَبِر ونثر الذهب للشيخ المحجاني المتمركز في قلعة القاهرة، ليطلق نيران المدافع على العرضي، كذلك وقف ضد ذلك الانقلاب بعض مشايخ حاشد كحميد الأحمد ومشايخ من بكيل، وسرعان ما استطاع الإمام أحمد بالذهب والإقدام والاندفاع أن يفك حصار الجنود عليه في القصر، بل إن خروجه المغامر على الجنود المكلفين بمراقبته جعلهم يستسلمون، فما ترسخ في أذهان الجنود المحاصرين له في القصر أن قوة خارقة للإمام أحمد لا تقهر!
وانتهت حركة مارس 1955 بالفشل، وأُعْدِم فيها سيف الإسلام عبد الله وأخيه العباس، والمقدم أحمد الثلايا وآخرون، وفر بعضهم إلى عدن.
كانت حركة مارس 1955 مشتبكة بعلاقاتها سواء مع الأمريكيين أو مع المصريين، لكنها حين سقطت بادر الجميع إلى تهنئة الإمام أحمد، وتوافدوا إلى مقام الإمام للتعبير عن تضامنهم معه.
كانت حركة 1955 هي الخطوة الثانية بعد حركة 1948 التي نقلت التناقضات إلى داخل البيوتات الحاكمة.
فحركة 48م كانت في وجه من وجوهها صراعا بين بيت الوزير وبيت حميد الدين، مما أعطى مؤشرا على سقوط البيتين خلال عقد من السنوات، فجاء انقلاب 1955 لينقل الصراع إلى داخل بنية بيت حميد الدين، وهو الانقلاب الذي جعل سعيد حسن إبليس يتحرك عام 1960 إلى السخنة في الحديدة من أجل اغتيال الإمام أحمد، وهي المحاولة التي انتهت بالتبليغ عنه من المشايخ الذين كان يفترض أن يساعدوه على تنفيذ مهمته، ثم كانت محاولة عبدالله اللقية ومحمد العلفي ومحسن الهندوانة عام 1961م، من أجل اغتيال الإمام أحمد في المستشفى بالحديدة.
يقول البردوني واصفا عبد الله اللقية بأنه إسلامي دون تحزب، ومحمد العلفي بالقومي والغامض ” يبدو مطويا على أفكار غامضة”، ومحسن الهندوانة بالمستقل “أما محسن الهندوانة فأظن، وبعض الظن إثم، أنه أراد أن يبلغ بصاحبيه إلى “الإمام” إلاَّ أنهما تمكنا من مراوغته حتى تورط معهما فأصبح شهيدا، ولعله قتل بلا نية، لكنه قتل وهذه زلة من الكبائر”ص361.
لقد جرف الحدث “محسن الهندوانة”، كان يفكر بالتبليغ عن اللقية والعلفي لكن الوقت لم يسعفه بل شده دون إرادة منه أو خيار، ويبدو لي أن ظن البردوني بالهندوانة مأخوذ من مرويات بعض أعضاء اللجنة التي حققت مع الهندوانة و اللقية. وقد كانت زوجة الهندوانة تعمل في خدمة نساء الإمام أحمد، وتتميز بجمال مشهور، إضافة إلى شخصية الهندوانة الهزلية، التي يستمتع بظرفها رجالات القصر، وهي سمات تجعله بعيدا عن الإيمان بقضية بمثل هذه الجدية والمغامرة.
وقد تشكلت لجنة للتحقيق مع اللقية والهندوانة، بعد القبض عليهما، وكان العلفي قد واجه الجنود بمسدسه، ثم أطلق النار على نفسه كما تقول الرواية، فتعرض اللقية والهندوانة من لجنة التحقيق لتعذيب شديد بغرض أخذ اعترافاتهما، وكانت اللجنة بحسب ما يذكره “أحمد منصور أبو اصبع” ، وكذلك “حسن مكي” في مذكراتهما مشكلة من عبد الله السلال وأحمد الشامي وآخرين ذكرتهم في كتابي “المذكرات السياسية في اليمن” الطبعة الثانية-2021م.

مشاركة البردوني في عيد النصر عام 1960:
اقترح عبدالله البردوني في أحد أعياد النصر أن يكون اسم العيد، عيد الجلوس، وضَمّن هذه التسمية إحدى قصائده التي شارك بها في تلك الاحتفالات.
يروي البردوني أنه في عيد النصر عام 1960م وبسبب الصراع بيت الحسنيين والبدريين أراد أن يلقي قصيدته في الميدان بصنعاء، وكان هناك بلاغ بمنعه من إلقاء قصيدة في الحفل بسبب “داليته التي أبهجت وأزعجت” يقول البردوني “ولما حان افتتاح الحفل توالى الشعراء والخطباء ، ولما اختتم عبد الرحمن(يقصد عبد الرحمن الشامي) قصيدته تقدمت إلى الميكرفون مباشرة فصفق الجمهور من أعلى الميدان إلى أسفله، وقبل أن أُلقي أحاط بي ثلاثة من الإخوان :علي المحفدي، عبد الله الذماري، وصالح اللوزي، وأبعدوني قليلا عن الميكرفون، وقال الذماري :كان الأحسن أن تسكت.”ص339.
فقرأ البردوني قصيدة جديدة، بعنوان “تحدي” يقول في مطلعها :
هدِّدونا بالقيد أو بالسلاح
واهدروا بالزئير أو بالنباح
اقرعوا فوقنا الطبول وغطوا
خزيكم بالتصنع الفضاح
قد ألفنا الردى كما تألف الغابا
ت عصف الخريف بالأدواح
واحتقرنا قطع الرؤوس وادمَنَّا
المنايا في حانة السفاح
“وبلغ الإمام الموقف جملة وتفصيلا، فما عرفنا غضبه وما أبدى رضاه”ص339-340.

حكاية عبارة تجري مجرى المثل:
يروي البردوني حكاية العبارة الشعبية التي يرددها اليمنيون :”ماعد بش إسلام، يصدقوا الحمار وما يصدقوا السيد”:
وهي أن قبيلي أراد أن يستعير حمار السيد لحمل زوجته المريضة عليه، فما كان من السيد إلاَّ أن اعتذر قائلا له بأن حماره في المدينة مع قبيلي سبقه واستعاره، لكن القبيلي
وزوجته المريضة سمعوا أثناء اعتذار السيد الحمار ينهق، فما كان من السيد إلاَّ أن قال تلك العبارة التي تناقلتها الذاكرة الشعبية ، لم يعد هناك إسلام، يصدقون الحمار ويكذبون السيد: “ما بش إسلام يصدقوا الحمار وما يصدقوا السيد”

البيوتات التجارية:
يتحدث البردوني عن البيوتات التجارية التي نبتت أو استنبتت بعد الحرب العالمية الثانية، في ذمار وإب وصنعاء وتعز، فيذكر من صنعاء عسلان وغمضان، ومن ذمار بيت مياس وبيت راوية، وفي يريم بيت نُجيم والحبابي، وفي إب بيت باسلامة وبيت المفتي، وأما ما يتعلق بتعز فإنه لا يذكر أسماء محددة، بل نجد فراغا موضوعا بدلا عنه نقطتين(..) في إشارة إلى حذف، لا ندري هل هو حذف أصيل أم مستحدث، والأرجح أنه مُحدَث!
يقول البردوني :”وكان في تعز نحو خمسة متقاربين في ما بينهم أعلى من غيرهم ثراء، وكانت فرص سانحة لمن له قدرة كأولئك البيوتات ، وقد كسر احتكار الغنى أفرادا استنحوا فرصا أو أثروا في الغربة وعادوا يتاجرون في دكاكين أرقى وأوسع، كتجار أديس أبابا، ولا سيما أثرياء الحرب العالمية.. سنوات أو أربع … ” ص848-849.
ملمحا إلى المال السياسي في قوله “لا سيما أثرياء الحرب العالمية الثانية، تاركا مكان التوضيح فراغ(..).

صحف ما بعد حركة 48م:
كان يوجد في تعز بحسب رواية البردوني- ثلاث صحف صدرت منذ عام 1949، هي :”النصر ” برئاسة محمد موسى، و(سبأ) التي انتقل بها (محمد عبده الشرجبي) من عدن عند انطفاء اتحاد الجمعية اليمنية الكبرى، وكان اسمها (الشباب) وقد تأسست في عدن لمواجهة صحيفة حزب الأحرار “صوت اليمن” وعند انتقالها إلى تعز تغير اسمها إلى (سبأ) أما الثالثة فكانت محاطة بالمؤامرات منذ بزوغها لتصاعد روائحها الماركسية، وكانت تحمل اسم (الأمل) وكان عبد الله باذيب يُديرها ويرأس تحريرها… ص1032.
لم تصدر صحيفة “الأمل” بتعز عام 1959م، وإنما كان اسم الصحيفة التي أصدرها عبد الله باذيب هناك “الطليعة” أما صحيفة “الأمل” فقد صدرت في عدن في بداية الستينيات، لتعبر عن “اتحاد الشعب الديمقراطي” الذي أسسه عبد الله باذيب عام 1961م.